بين أوكرانيا وسوريا

2022.01.21 | 04:45 دمشق

2099079484.jpg
+A
حجم الخط
-A

الأساس في العلاقات الدولية اليوم، هو مربع العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا، حيث يبدو أن الأوروبيين مستعدون للتفاهم مع الصين، في مقابل مواجهة محتملة ومنتظرة مع الروس، في حين يجد الأميركيون أنفسهم أمام باب مفتوح للتفاهم مع الروس لتحييدهم من أجل المواجهة مع الخطر الصيني الذي ينازعهم على صدارة العالم.

من هنا يبدأ الروس الذين يفهمون هذا التشابك في نسج أمنهم الإقليمي الذي يعتبرونه أمراً لا جدال فيه، حيث يتردد في الإعلام التوجيهي الروسي أن الغرب و أميركا تريد تفكيك دولة روسيا الاتحادية، وتقسيمها إلى خمس دول: روسيا، وسيبيريا، ودول القوقاز، ومنغوليا الشمالية، وشبه جزيرة كشمتاكا... وبأن جهود بوتين الرئيسية هي في القتال استباقياً من أجل منع هذا التقسيم، فها هو يقاتل في جورجيا، ويسلخ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عنها في 2008، ويقاتل في أوكرانيا، ويسلخ عنها شبه جزيرة القرم و إقليم دونتسك، ويقاتل في كازاخستان، وسوريا، وقبلها في الشيشان وداغستان..

أما عن أوكرانيا فقد كانت جزءاً أساسياً من روسيا القيصيرية، وبعد تضعضع الحكم القيصري، أصبحت البلاد الأوكرانية جزءاً من تكتل جديد وأطلق عليها اسم بولندا الصغرى، وفي العام 1922، كانت أوكرانيا من الدول المؤسسة للاتحاد السوفييتي، لكن  في عام 1955 قام خروتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي بإصدار قرار إداري بضم شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا بعد أن اقتطعها من روسيا، وشبه جزيرة القرم هو إقليم اقتتل الروس والأتراك للسيطرة عليه طوال أربعة أعوام (1853- 1856) .

المفاوضات بين الولايات المتحدة وغروباتشوف حينئذ أقرت بأن حلف الناتو لن يتمدد باتجاه دول الاتحاد السوفييتي السابقة..

حين سقط الاتحاد السوفييتي عام 1989، أجرت السلطات الأوكرانية استفتاءً شعبياً حول الانفصال عن الاتحاد السوفييتي، فصوّت أكثر من 90% من الأوكرانيين على الانفصال، ولكن المفاوضات بين الولايات المتحدة وغروباتشوف حينئذ أقرت بأن حلف الناتو لن يتمدد باتجاه دول الاتحاد السوفييتي السابقة.. في اتفاق شفاهي.. في حين أقرت مذكرة بودابست للضمانات الأمنية التي وقعت عام 1994، بين بريطانيا وأميركا وروسيا وأوكرانيا التي تنص على تخلّي أوكرانيا عن السلاح النووي كضمان للأمن الأوروبي، خصوصاً بعد كارثة الفشل النووي السوفييتي في انفجار مفاعل تشيرنوبل في أوكرانيا، مقابل أربعة شروط أساسية هي احترام سيادة الدولة الأوكرانية، وحماية أوكرانيا، وعدم وضع ضغوط اقتصادية على كييف، وعدم استخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا..

في عام 2005 اندلعت الثورة البرتقالية في كييف، التي نغصت السياسات الداخلية الروسية، إذ حاول الروس اغتيال المرشح الرئاسي الأوكراني الموالي للغرب قبل ذلك بعام واحد، مما سبّب حرجاً كبيراً للرئيس الروسي بوتين، إذ اتهم شخصياً بالإيعاز بذلك الاغتيال، لكن الثورة البرتقالية التي اندلعت بعد هذه الحادثة طالبت بانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، معلنة الانفصال السياسي الكامل عن روسيا ومجالها الحيوي.

وفي تصاعد مقلق، اجتاحت الجيوش الروسية حدود جورجيا عام 2008 بعد وعود جورج بوش الابن بالسماح بضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، فاقتطعت روسيا إقليمين كبيرين فيها بحجة رفض روسيا لانضمام جورجيا لحلف الناتو.. وصولا إلى عام 2014، حيث اندلعت الثورة وأعقبها أعمال عنف ضد الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، وهروبه إلى موسكو، ونجاح حلفاء أوروبا بالوصول إلى السلطة ومنذ ذلك اليوم بدأت المفاوضات بطلب من كييف بالانضمام الكامل لحلف الناتو.. وبذلك تم إعلان الانفصال الكامل لأوكرانيا عن روسيا..

حينئذ بدأت أحجار الدومينو في السقوط معلنة بَدْء المعارك بين روسيا والغرب، حيث دخلت ميليشيات روسية إلى شرق أوكرانيا وتم فصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا..

في عام 2021، كتب فلاديمير بوتين مقالاً أشبه بالبيان، وعادة حينما يكتب رئيس إحدى الدول مقالاً في صحيفة، فهذا يكون بمنزلة بيان للرأي العام، واستطلاعٍ لرأي حكام الغرب عموماً، في مقاله هذا يتحدث بوتين عن طموحاته المخفية تجاه أوكرانيا، فهو يتهم الغرب باختطاف أوكرانيا من الأمة الروسية، وبأن كييف تفتقر إلى هوية ثقافية وعرقية مستقلة، وهي ليست دولة مستقلة ولم تكن يوماً كذلك، أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا، واستقلالها استخدمه الأعداء ضدنا.

لا يخفي بوتين رغبته في استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي ولكن ضمن شكل جديد معاصر، وهو إذ يستند إلى التاريخ في بناء عالمه المستقبلي، يحاول تحريض العنصر القومي الروسي على مساندته، فالارتباط الروسي الأوكراني في حقيقة الأمر كبير جداً، ومدينة كييف تعدّ العاصمة الأولى للكيان الروسي، وهي إحدى الدول الأساسية المكونة للقلب السلافي للاتحاد السوفييتي برفقة بيلاروسيا وروسيا، وحقيقة أن روسيا قوة عسكرية لا يستهان بها، حاضرة في عقول الجميع وعلى رأسهم الألمان، فحينما هدد وزير الدفاع الألماني روسيا من عدم تجاوز الخطوط الحمراء الأوروبية، رد وزير الدفاع الروسي عليه قائلاً: إن آخر  تهديد وجهه الألمان لنا كانت نتيجته رفع العلم السوفييتي فوق مبنى الرايخ الألماني، في إشارة إلى احتلال الروس لبرلين في الحرب العالمية الثانية، مما أوجع الأوروبيين عموماً، ولكن المبدأ الأساسي الذي يجعل فلاديمير بوتين يرتجف إزاء المتغيرات الدولية هي حقيقة الثورات التي تدور وتنتقل من بلد إلى آخر على حدود روسيا، مهددة الداخل الروسي الذي يغلي من شدة قمع نظام بوتين، فبعد إخماد الثورة في سوريا، وبلارورسيا، و كازاخستان، وفشل بوتين في إخماد ثورة أوكرانيا، يحاول الرئيس الروسي تعويض ما فاته في غرب روسيا وخصوصاً في البلد الذي يعتبره جزءاً لا يتجزأ من روسيا الاتحادية..

يتحدث المراقبون عن تحضيرات عسكرية في الشمال السوري، تحسباً لأي ضربات روسية وإيرانية ضد الفصائل المدعومة من تركيا، استباقاً للغزو الروسي لأوكرانيا

فما الذي تفعله الحكومة الأوكرانية تجاه التهديدات الروسية، بعد الدعم السياسي الأوروبي والأميركي، وبَدْء الدعم العسكري، ومدّ جسر الإمداد نحو كييف؟ ولكن الصفعة التي لم يتوقعها بوتين هي في صفقة الطائرات المسيرة التي وقعتها كييف مع أنقرة، بعد النجاح الكبير الذي حققته طائرات بيرقدار المسيرة عن بعد وذات السمعة الممتازة في حروب ناغورنو كارباخ وليبيا.. مما جعل مبادئ اللعبة تتشابك بين الشرق الأوسط وأوروبا، فبدأ الضغط في الشمال السوري، تحضيراً للرد على التحرك التركي الذي استفز روسيا.

في حين يتحدث المراقبون عن تحضيرات عسكرية في الشمال السوري، تحسباً لأي ضربات روسية وإيرانية ضد الفصائل المدعومة من تركيا، استباقاً للغزو الروسي لأوكرانيا الذي إن حدث فإنه سيكون مشابهاً لغزو هتلر لبولونيا وبدء الحرب العالمية الثانية.. من دون أن ننسى أن تشابك المصالح الروسي التركي، وعدم اعتراف تركيا بضم شبه جزيرة القرم التي يسكنها نسبة كبيرة من التتار الأتراك، والتوتر الناتج بعد الحرب في أذربيجان وأرمينيا التي يدعمها بوتين، والمسألة السورية، والتدخل التركي في تسليح الحكومة الأوكرانية ضد أي غزو روسي محتمل.. هذا التشابك سيضع سوريا مجدداً في قلب الصراع المحتمل في أوروبا، وما سيليه من تداعيات على أوروبا والعالم.