بوصلة النخب العربية تجاه الكرد وتهميش الشباب العربي

2021.05.06 | 06:01 دمشق

15699755_303.jpg
+A
حجم الخط
-A

كشفت نتائج التراكم خلال العقود الماضية، عن فشل النخب العربية في تجسير الهوّة بين المكونات بعضها بعضا، بالرغم مما دفعته من أعوامٍ في المعتقلات؛ نتيجة نضالاتها في سبيل الحريات والحقوق السياسية. لكن حجم التباعد الاجتماعي توضح خلال عقدٍ كامل للربيع العربي حيث فشل قسم كبير من النخب العربية  لخوفه، أو لقراءة مستقبلية خاطئة، أو  لانطلاقه من خلفيات مسبقة، في لمّ شمل مكونات دولها التي تتعايش فيها أكثر من قومية وديانة في إطار  واحد.

ولم تلامس بعض النخب في ممارساتها وأعمالها جوهر الشقاق المجتمعي، وفشلت في إزالة الصور النمطية عن الأقليات والقوميات المغايرة في ذهنية الأكثرية، وتحديداً تهمة الخيانة أو الانفصال أو العمالة عن القوميات المغايرة، والشعوب المتمايزة كالكرد والآشوريين والأمازيغ والطوارق والأقباط وجنوب السودان...إلخ. فبقيت الشعوب العربية تئن من ضربات الفقر والملاحقة، في حين انصرفت النخب لحشد طاقاتها في مواجهة "العدو الداخلي-القوميات الأخرى".

وبالنتيجة فإن الشرخ الحاصل بين الكُرد والعرب انتقل من صراع البنى الفوقية، إلى صراعٍ شعبي عربي مع نُخبهم السياسية والفكرية على صعيد البنى التحتية. ولعل لجوء مئات الآلاف من أبناء المحافظات العراقية إلى كردستان العراق، هرباً من البطش والفقر، مؤشر دامغ على الإفلاس الذي لحق بتلك النُخب. وهو الأمر عينه الذي ينسحب على السودان الذي بقيت التوترات والمواجهات على مدى عقودٍ بين شعب جنوب السودان ونُخب المركز، وفي النهاية خسرت السودان جنوبها، وكانت على وشك خسارة جنوب كردفان وما حولها، وبل أنقذت نفسها بالتطبيع مع إسرائيل.

والأمر الأكثر تجلياً، كان في طبيعة وتركيبة العلاقة بين الكُرد في سوريا نخباً سياسية وحزبية وثقافية فكرية، مع نظرائهم السوريين، الذين استكثروا بياناً عاطفياً مع المجردين من الجنسية، أو ضد سياسات التعريب التي مورست ضدهم. والأكثر سوءاً أن تلك النخب وسعت رقعة إهمالها للمكون العربي نفسه، وخاصة في محافظة الحسكة، التي بقيت تئن من وطأة التجهيل والحرمان.

إهمال النُخب العربية لقضايا وإشكاليات القوميات الأخرى، شكل سداً أمام النهوض بالمجتمعات المحلية للمواجهة الحقيقية، وهو ما استتبعه من تضخم نظرة الخلاف أو ربما العداء بين المكونات، وإبقاء دائرة الصراع ضد تلك القوميات، عوضاً عن البحث عن الأسئلة المتعقلة بمصير ومستقبل الأجيال المقبلة. بل بقيت أعداد كبيرة منها متمسكة بخطاب السلطة وأجهزتها الحاكمة. هذه النخب، ربما تتحمل الجزء الكبير من مآلات وضع وحياة الجيل الشاب من المكون العربي تحديداً؛ خاصة أنها لم تهتم أو تكترث لأسئلة الهمّ والوجود الذي طال مصير ومستقبل تلك الشريحة المظلومة.

تلك النخب تناست الهم والحيرة والفشل والحطام الفكري لدى الشباب العربي في بعض المحافظات العراقية

بالمقابل، وكأمثلة على فشل قسم كبير من النُخب في خلق هويّة جامعة، فقد انشغلت على الدوام في ترسيخ مفاهيم سوداء حول الوجود الكردي. كصورة الكردي في مخيلة العربي بعد حرب الخليج الثانية، وبداية بلورة مشروع لحماية مكونات كُردستان العراق عبر منطقة حظر طيران، وإقامة ملاذ أمن للكرد، وما تلاها من تداعيات. حيث قفزت وتغاضت تلك "النخب" عن سبب اجتياح النظام العراقي السابق لدولة عربية جارة شقيقة، كما تناست النتائج الكارثية لحرب الثماني سنوات، وسعت جاهدة صوب ترسيخ تهمة العمالة ضد كردستان.

واستمرت العقلية والذهنية الثقافية على ذلك المنوال، وحتى بعد 2003 وإلى يومنا هذا، لتتبلور ظروف حملتها النُخب والمتأثرين بهم على أنها موضوعية، وهي في صلبها مشوهة ومغلوطة. تلك النخب تناست الهم والحيرة والفشل والحطام الفكري لدى الشباب العربي في بعض المحافظات العراقية. فبعد أن كان الكرد يعيشون حالة من الحرمان، وما يولده من تخلف عن ركب الحضارة نتيجة السياسات المفروضة ضدهم، ومع ذلك استمروا في ثوراتهم وحركتهم التحررية الكردستانية ولمدة مئة عام، حتى تمكنت النخب السياسية متجسدة بالاستفتاء الكُردستاني 2017، من نقل الكرد إلى حالة الدولة بالمفهوم السياسي والتجسيد الواقعي.

في حين أن العراق شهد منذ مئة عام، مفهوم الدولة ككيان عياني معاش على الصعد الجغرافية والأمنية والسياسية والاقتصادية وعلى صعيد ميزانية دولة وجيش رسمي نظامي، وجامعات ونخب فكرية وثقافية. وكانت المفاجأة، أن جيلاً انتقل من مفهوم الدولة إلى مفهوم الإمارة.

مَن يتحمل تبعات وأسباب هذا الحطام؟ هل هي الشريحة التي ضلت الطريق؟ أم تراكم السياسات التجهيلية وضياع النخب في التفاصيل والجزئيات التي لا تخدم شعبهم؟

وهي الصورة الشبيهة بالوضع في سوريا، من حيث اشتراك الجيل الشاب للعرب والكرد بالبيئة الحاضنة نفسها،  بل إن بعضاً من أبناء القرى المختلطة بالعرب والكرد، ارتادوا المدرسة والصف، وأحياناً المقعد الدراسي نفسه. وفي بدايات الحدث السوري، انقسم الشارع الشبابي الكردي والعربي من الناحية العسكرية على نفسه. حيث أسس الكرد وانضموا  إلى صفوف قوات بشمركة روج آفا، أو قوات الحماية الشعبية، وفي المقابل التحق قسم من الشباب العربي بالتشكيلات والتنظيمات العسكرية التي جاءت بها الأحداث منذ عسكرة الحدث السوري، متمثلاً آنذاك بالجيش الحر، وشكلوا جزءاً من الهيكلية العسكرية المعارضة. لكنهم سرعان ما انقسموا على أنفسهم بين الاستقرار في دول اللجوء، أو الانزلاق جهلاً ضمن صفوف جبهة النصرة أو تنظيم الدولة.

تتحمل النخب العربية في سوريا الجزء الأكبر من المسؤولية؛ من حيث انصرافها عن متطلبات وهموم جيلها الشاب، والابتعاد عن خلق حواضن تحميهم من ذلك الانزلاق

وفي هذه مخاطرة كبيرة ما لم تتوضح الحيثيات، فلا صحة للتعميم. منهم من التحق بقناعة فكرية وغالبية التحقت ما بين التغرير بهم، أو لحاجة مالية.

في العموم، تتحمل النخب العربية في سوريا الجزء الأكبر من المسؤولية؛ من حيث انصرافها عن متطلبات وهموم جيلها الشاب، والابتعاد عن خلق حواضن تحميهم من ذلك الانزلاق، خاصة  أنها وليدة تراكمات لعقود خلت.

وانشغل قسم من النخب العربية بكيفية إلصاق تهمة الانفصال بالكرد، أو التغني بتهمة اقتطاع أجزاء من الدولة السورية وإلحاقها بدولة أجنبية، ما ساهم في تمهيد الأرضية لانصراف الشباب العربي عن متابعة القضايا المصيرية المتعلقة بحاضره ومستقبله.

ما بين هذا وذاك، ثمة أسئلة على النخب العربية في سوريا أن تجيب عليها: لماذا انصرفت عن الاستماع إلى هموم أقرانها؟ وأين كانت تصرف طاقاتها الفكرية؟ إن لم تتمكن من تغيير ذهنيات أو تحافظ على الشباب من الانزلاق نحو الدرك الأسفل.

يقابل كل ذلك، هل نجحت النخب الكردية في سوريا من حماية شبابها؟ أم أن تراكم الشغف نحو الحق الكردي وعقود من المظلومية الكردية وقفت كعامل مهم وعميق في رسم تلك التوجهات؟

يضاف إليها ما مارسته النخب الكردية من كتاب وصحفيين وسياسيين ونشطاء، من رسم معالم غدٍ على صعيد التصورات والتوقعات على أقل تقدير ضمن الإطار النظري، الذي شكل قاعدة مبدئية لرسم توجهات الشباب.

هل نجحت النخب الكردية في سوريا في حماية شبابها؟ أم أن تراكم الشغف نحو الحق الكردي وعقود من المظلومية الكردية وقفت كعامل مهم وعميق في رسم تلك التوجهات؟

قصارى القول إن أبناء محافظات الحسكة، الرقة، دير الزور، يحملون هموماً مزدوجة، طرفها الظلم والحيف الواقع عليهم طيلة نصف قرن من الحرمان والتجويع، وما يستتبعه من تأخر عن ركب المعرفة والفكر، وانقسام مجتمعي إلى كرد وعرب وآشوريين عن بعضهم بعضا.

هؤلاء بحاجة إلى إطار جمعي جديد يقيهم من أي انزلاق آخر يكون المحطة الأخيرة في مستقبلهم، خاصة  أن الانقسام لم يصل إلى حدّ القطيعة بعد، ويُمكن تداركه.