بوريس جونسون الوجه الأبيض لإنكلترا

2020.01.21 | 23:14 دمشق

gettyimages-472955440.jpg
+A
حجم الخط
-A

بوجهه الأبيض الممتلئ وبشعره الأشقر الذهبي وبعينيه العسليتين اللامعتين، وقف أمام ناخبيه منتصراً بعد أن حصد حزب المحافظين أعلى الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت بداية كانون الأول 2019. هكذا أصبح بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني المنتخب في 24 من حزيران من ذات العام قادراً على تخطّي عقبة الخروج من الاتحاد الأوروبي دون مناكفات الأحزاب والبرلمانيين المعترضين.

يجمع الرجل في شخصه خليطاً عجيباً من المكونات إن لم نقل من المتناقضات. فجدّه الأكبر لأبيه مسلم شركسيّ عثماني يدعى علي كمال، ومع ذلك نجده متحاملاً على الإسلام والمسلمين في كتاباته الأدبيّة كما في تصريحاته ومواقفه السياسية. ففي روايته المسمّاة   Seventy - Two Virgins أي 72 عذراء أو حوريّة، يسرد قصّة نائب بريطاني يجد نفسه في خضمّ معارك خرافيّة ضدّ مجموعة إرهابيّة متطرّفة – إسلاميّة طبعاً – تحاول اغتيال الرئيس الأمريكي أثناء إلقائه خطاباً في مجلس العموم البريطاني، وهو يتكلّم عن نفسه طبعاً. تنضح الرواية عنصريّة مقيتة ضدّ المسلمين والعرب خاصّة، ولا تخلو من نظرة دونيّة للنساء المسلمات المتنقّبات اللواتي وصفهنّ في مناسبة أخرى بأكياس القمامة المتنقّلة. ولم يقتصر موقفه من الإسلام على هذه الرواية بل عاد وأكّده في كتابه The Dream of Room أو حلم روما، حيث يقول فيه: "ولا شكّ بأن الاعتقاد بتموضع مشكلة العالم الإسلامي في الإسلام نفسه لا يُجافي الحقيقة"

وُلد أليكساندر بوريس دي بيفيل جونسون في 19 من حزيران 1964 في مدينة نيويورك لأسرة ثريّة ذات أصول مختلطة من ناحية الأم أيضاً، فتجمع في نسبها عرقاً فرنسياً وآخر يهودياً إنكليزياً، وللتعبير عن هذه الأصول المختلطة من ناحية أسلافه وصف نفسه مرّة بأنّه "بوتقة ذوبان في رجل واحد" . وهو يحمل الجنسية الأمريكية بالولادة إضافة إلى البريطانية بحقّ الدم. نتيجّة لظروف عمل والده ستانلي ما بين أميركا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا فقد أتيحت لبوريس الفرصة لتعلّم العديد من اللغات مثل الفرنسية واللاتينية، وتشير بعض المصادر إلى أنه يعرف الألمانية والإسبانيّة والإيطاليّة أيضاً، كما أنه تحصّل على قدر لا بأس به من الخبرات زاد من طموحه الكبير أساساً، فلطالما حلم بأن يصبح ملِكاً للعالم كلّه. بعد أن حصل على منحة ملكيّة للدراسة في مدرسة إيتون بيركشاير الداخلية، تخلّى عن تبعّيته الكاثوليكية وانتقل إلى الكنيسة الأنجليكانية. هناك حيث تفوّق في اللغة الإنكليزية بدأ تجاربه القياديّة في حلقات النقاش المدرسيّة وفي صحافة المدرسة التي ترّأس هيئة تحريرها. بعد منحة إيتون سافر جونسون إلى أستراليا لمدّة عام كامل ضمن ما يسمّى بعام التفرّغ أو السنة الخارجيّة، وتابع هناك تنمية مهاراته في اللغتين الإنكليزية واللاتينية.

وبعد حصوله على منحة لدراسة الكلاسيكيّات اليونانيّة القديمة واللاتينية في جامعة أكسفورد، بات قريباً من الوسط الطلّابي المسيطر على السياسة والإعلام في بريطانيا، وتشارَكَ هذه البيئة مع العديد من السياسيّن المرموقين

وبعد حصوله على منحة لدراسة الكلاسيكيّات اليونانيّة القديمة واللاتينية في جامعة أكسفورد، بات قريباً من الوسط الطلّابي المسيطر على السياسة والإعلام في بريطانيا، وتشارَكَ هذه البيئة مع العديد من السياسيّن المرموقين مثل وليم هيج وديفيد كاميرون وتيريزا ماي. تخرّج بوريس من كليّة باليول في جامعة أكسفورد وحصل على ترتيب من الدرجة الثانية وليس الأولى، وقد يكون نشاطه في رئاسة اتحاد أكسفور أحد أسباب تقصيره في الحصول على أعلى المعدّلات الدراسية، رغم أنّ فترة رئاسته له وصفت بالعاديّة التي لم تقدّم أية إضافات تذكر، لا بل على العكس كانت محلّ تشكيك بقدرته على القيادة والإبداع.

عمل جونسون بعد زواجه من أليجرا موستين أوين في الصحافة البريطانية، ومن خلال علاقات والد زوجته مؤرخ الفنّ وليم موستين حصل على وظيفة متدرّب في صحيفة التايمز. لم يطل به الوقت هناك حتى أوقع نفسه بفضيحة صحفيّة، عبر اقتباسٍ مزوّر يخصّ الاكتشاف الأثري لقصر إدوارد الثاني، وكان نتيجة ذلك أن تمّت إقالته من العمل. مع ذلك حصل على وظيفة جديدة في صحيفة ديلي تلغراف، لكنّه هذه المرّة وبسبب براعته اللغوية استطاع أن يخاطب قرّاء الصحيفة من أبناء الطبقة الوسطى في مركز إنكلترا المحافظ. بعد ذلك انتقل إلى العمل في مكتب الصحيفة في بروكسل لتقديم التقارير عن عمل المفوضيّة الأوروبيّة هناك، وقد استطاع أن يرسم لنفسه في أذهان زملائه صورة الصحفي الذي يتقن تلفيق الأكاذيب وليّ عنق الحقائق. لقد كان موقفه منذ تسعينيات القرن الماضي مناهضاً للاتحاد الأوروبي، وكان من بين مروّجي الشائعات حول المفوضيّة الأوروبية، فيما بات يُعرف لاحقاً باسم أساطير الاتحاد الأوروبي التي تركّز على نسبة قرارات لهذا الكيان تخالف الذائقة العامّة في إنكلترا خاصّة، وكان الهدف منها على الدوام التشكيك بهذا الاتحاد.

أثارت مواقفه العدائيّة للاتحاد الأوروبي إعجاب رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر، فقد كانت مقالاته الصحفيّة مفضّلة لديها رغم ما تحتويه من مغالطات وأكاذيب. يمكن وصف جونسون بأنه أحد ركائز مبدأ أو مصطلح الشكوكيّة الأوروبية، الذي يصف عمليات دمج دول أوروبيّة مختلفة القوميات واللغات والعادات والتقاليد بالمشروع الفاشل، وقد أثارت مقالاته جدالاً واسعاً في صفوف حزب المحافظين بين أنصار هذا المبدأ ومقابليهم من دعاة الأوروبيان أو المؤيدين للاتحاد، وكان لمقالاته أثر لا بأس به في خسارة حزب المحافظين الانتخابات وتأسيس حزب استقلال المملكة المتحدة.

بعد طلاقه من زوجته الأولى أليجرا في العام 1993، دخل في علاقة غراميّة مع صديقة طفولته مارينا ويلر، وبعد زواجهما أنجبا ثلاثة أولاد. كان لهذا الزواج والوسط المحيط بالزوجة الجديدة أثرهما في ميل جونسون قليلاً نحو اليسار الليبرالي حيث بدأ يهتمّ نوعاً ما بقضايا البيئة والتغيّرات المناخية وحقوق المثليين. مع ذلك لم يكن هذا الرجل ليستقرّ على مبدأ أو موقف، فسرعان ما كان يغيّر آراءه ويتقلّب بين المواقف الداعمة للاستعمار الأوروبي في إفريقيا، وتلك المتهكّمة على المثليين وعلى الأفارقة الذين كان يسمّيهم في عموده السياسي بالطينيين أو أصحاب ابتسامة البطّيخ.

لم تخلُ شخصيّة جونسون من الجدليّة، فقد كان على موعد مع الفضائح الأخلاقية كل عدّة أعوام. في العام 1995 ظهر تورّطه في نشاطات صديقه داريوس غوبي المخالفة للقانون بشأن الاعتداء على أحد المنافسين السياسيين. وفي العام 2004 اكتشفت علاقته الغراميّة مع إحدى الصحفيّات في جريدة المشاهد، ورغم إنكاره الأمر إلّا أنه تمّ إثباته عليه، فأُقيل إثر ذلك وبسبب الكذب العلني من منصب نائب رئيس حزب المحافظين ووزير الظل للتعليم العالي. وخلال تسلمه منصب عمدة لندن لدورتين متتاليتين من عام 2008 حتى عام 2016 لم يبخل على نفسه وعلى الجمهور البريطاني بالمزيد من الفضائح والمخالفات القانونية والأخلاقية، ولعلّ أهونها بناؤه ملحقاً في منزله من دون رخصة قانونية.

تبدو شخصيّة رئيس الوزراء الحالي مثيرة للجدل، فرغم الانتقادات الكثيرة لتصرّفاته وأقواله فإنه يحظى بشعبيّة لا بأس بها، ولعلّ هذا الأمر يثير بعض التساؤلات حول طبيعة المجتمع البريطاني عامّة والإنكليزي خاصّة

بعد تركه منصب عمدة لندن عاد بوريس جونسون ودخل البرلمان، وتابع مسيرته السياسية بأن شغل منصب وزير الخارجية في حكومة تيريزا ماي، وبعد أن استقالت الأخيرة من قيادة حزب المحافظين بسبب فشلها في الحصول على الأكثرية اللازمة لتنفيذ خطّة الخروج من الاتحاد الأوروبي، تقدّم جونسون بترشّحه وفاز برئاسة الحزب، وفي اليوم التالي لانتخابه زعيماً للحزب قبلت الملكة إليزابيث الثانية استقالة تيريزا ماي وعيّنته رئيساً للوزراء.

تبدو شخصيّة رئيس الوزراء الحالي مثيرة للجدل، فرغم الانتقادات الكثيرة لتصرّفاته وأقواله فإنه يحظى بشعبيّة لا بأس بها، ولعلّ هذا الأمر يثير بعض التساؤلات حول طبيعة المجتمع البريطاني عامّة والإنكليزي خاصّة. فالمظاهر الخارجيّة التي توحي بانفتاحٍ مجتمعي تجاه القضايا الإنسانية العامة مثل المناخ والهجرة وحقوق المثليين لا تتوافق مع اختيارات الناخبين في صناديق الاقتراع السريّة! أفلا يثير هذا الأمر الاستغراب، وما الذي يدعو المجتمعات المنفتحة المتحررة لإظهار شيء وإبطان نقيضه، وهل هي ظاهرة عابرة أم متأصّلة فيها؟

لاشكّ بأنّ فوز جونسون يأتي كحلقة في سلسة طويلة بدأت من فوز بوتين برئاسة روسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي المنهار، وتصاعدت بالتدريج حتى وصلت إلى قمّتها في فوز ترامب عام 2016 والمتوقّع أن يتكرر ثانية عام 2020. إنّها موجة اليمين الغربي المعبّر عن عودة أفكار التفوّق الأبيض على بقيّة الألوان الإنسانية. يمكن بكل سهولة قراءة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضمن هذا السياق، فالإنكليز خاصّة يرغبون بالعودة إلى ماضٍ ليس ببعيد حينما كانوا أسياد العالم، وبعضهم يرى في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي تبعيّة لا تليق بالإمبراطورية التي كانت في أحد الأيام لا تغيب عنها الشمس. إنّهم يرفضون المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية، ولعلّ هؤلاء أقلّ بياضاً من الإنكليز! الأمر إذن ليس متعلّقاً فقط بأولئك القادمين من آسيا أو من أفريقيا.

إنّه عصر الانغلاق على الذات رغم آفاق الانفتاح الواسعة التي تشقّها العلوم والتكنولوجيا والثقافة والفنون والإعلام. هكذا يريد جونسون أن يبني جداراً انكليزياً بوجه أوروبا، كما بنى الأمريكيون جدارهم بوجه المكسيك وكما بنى الإسرائيليون جدارهم بوجه الفلسطينيين. فهل يكون جونسون وجه إنكلترا الأبيض؟