بوتين ورئاسات أميركية مربكة

2021.11.08 | 05:09 دمشق

thumbs_b_c_b97f63a2482c1fc6c77d3f1898f36b72.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الرئيس الأميركي الأسبق "أوباما" مميزاً أو نبيها، كما الادعاء؛ والدليل أنه بعد إقرار ترشيحه من الحزب الديمقراطي ٢٠٠٨، وخلال مناقشات في قضايا عالمية حساسة، هناك توثيقات بأنه كان ينتظر الموقف الراجح للأقوياء في محيطة، وينضمّ إليه. كانت ميزته الأساس لونه؛ فهو أول رئيس أميركي غير أبيض. وبالطبع كانت أوراق اعتماده قوية لدى إسرائيل والمنظمات الصهيونية في أميركا.

في ولايته الأولى، كانت "هيلاري كلنتون" منافسته الأقوى كمرشحة للديموقراطيين، ولكنه اختطف الدور منها؛ فأُرضيت بوزارة الخارجية؛ إلا أنها لم تنسَ أحقيتها بالرئاسة، فكانت ربما الأفشل بمنصب جائزة الترضية ذاك، لا ضعفاً بها، بل جدعاً للأنف، ربما انتقاماً من خاطف حلمها.

يرى مراقبون أن ظاهرة أوباما هي المتسبب الأساس بظهور "الترامبية"، كردة فعل على بداية الانحدار الأميركي. ويزيد هؤلاء بأن هكذا ظاهرة يصعب تكررها، حتى ولو بشكل هزلي؛ كما يعلق البعض على ولاية نائبه الحالي.

هذا التاريخ- ومن جانبنا كسوريين- سيسجل بأن هذه الظاهرة تحمل بعنقها دماءً وأرواحاً وعذابات سورية لا تقل عمّا ارتكبته منظومة الاستبداد الأسدية وإيران وروسيا. يكفي أنه في القرن الواحد والعشرين يتم تمرير جريمة استخدام "نظام" للسلاح الكيماوي المحرّم دولياً؛ ويبقى المجرم طليقاً، رغم كل التوثيقات. أما السقطة الأكثر فداحة لأوباما فلم تكن مبدأ التحكم بتلك القضية عن بعد، بل إدارة الظهر والغفلة والتسليم بالدخول الروسي بكل ثقله بمنطقة حاسمة في المنطقة الأهم جيواستراتيجياً لأي قوة عالمية.

وقعت تلك الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ بداية هذه الألفية بين يدي عميل/عامل "كي جي بي" سابق كرأس لإمبراطورية مندحرة؛ رجلٌ يتراقص بين الحقد على الغرب كمسؤول بنظره عن هزيمة بلده، وبُنى منخورة متهتكة على كل المستويات؛ وبين استعادة أمجادها بعقل العصابة؛ فأدار الدفة مستغلاً كل ثغرة أمامه، وخاصة مَن يرأس قمة الهرم الغربي، الرئيس الأميركي.

لم يقدم بوتين نفسه كقوة عظمى؛ أسهم بإشاعة تناحر أميركي – أوروبي؛ سعى لتعزيز مقولة "رامسفيلد" وزير دفاع "بوش" الابن بأن /أوروبا قارة عجوز/، وأن أميركا لا أصدقاء لها بل تابعين؛ عمل على أن يكون عكس ذلك بحرصه على ما تَوفَّرَ له من أصدقاء؛ كرّس الرؤية تجاه الصين بأنها البعبع المخيف، واستغل ذلك في وجه الغرب أيما استغلال؛ سحب من أميركا والغرب تركيا أهم عضو في "الناتو" في مواجهة روسيا تاريخياً؛ أغرى أقرب أصدقاء وحلفاء أو تابعي أميركا في منطقة الشرق الأوسط مستغلاً الانحسار والإرباك الأميركي الذي يولّده إما رئيس غير متمكن،  أو متغطرس، أو مستنسخ هزلياً ولكن بلون صحيح.

خلال العقدين الماضيين، قوّى بوتين قاعدته المادية الذاتية فلكياً محيطاً نفسه بطغمة مالية مافيوية؛ أوجد برلماناً خاتماً بإصبعه؛ سحق معارضيه؛ أحاط روسيا بطوق من شبه الدول أو الكيانات واضعاً يده عليها؛ ثم بدأ بالتمدد البطيء خارج الحدود، فكان المتوسط (الحلم القيصري والسوفييتي) أهم وأخطر تمدداته؛ والأهم من ذلك أنه يكاد يسرق نهائياً ربيبة أميركا واستثمارها التاريخي في الشرق الأوسط، إسرائيل؛ فمتى كنّا نسمع أن "أمن إسرائيل أولوية بالنسبة لروسيا"، قبل أن ينطق بذلك "لافروف"، وزير خارجية بوتين؟!

مقابل كل ذلك، ماذا فعلت إدارات أميركا خلال العقدين الماضيين؟ الجواب أتى على لسان السفير السعودي في واشنطن ورئيس الاستخبارات السعودي الأسبق، الأمير تركي الفيصل، حيث يقول:

- "الشكوك في دور الولايات المتحدة والتزاماتها تتراكم بعد أن كانت القوة المهيمنة على مدى العقود السبعة الماضية.

- مع الانسحاب الأميركي من كابل بدأ عصر "الارتباك الاستراتيجي"، واضح أن واشنطن وحليفها الناتو هزما في أفغانستان.

- الارتباك الاستراتيجي إذا استمر فإنه سيهدد التقدم الذي حققته الإنسانية خلال العقود الماضية.

- منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأكثر شعورًا بالارتباك الاستراتيجي الموجود على مستوى العالم".

في ضوء كل ذلك، أي رؤية أو استراتيجية أميركية مطلوبة لإبقاء توازن عالمنا؟ هل هذا الانشغال بالصين مبرراً لترك الحبل على غاربه لمن يهدد التوازن العالمي؟ هل ينفع توصيف أوباما لروسيا كمجرد "قوة إقليمية كبيرة" للحطّ من قيمتها كرادع؟! أليس وضع اليد الروسية على سوريا فوزاً استراتيجياً ستشعر أميركا بثقله لسنين؟ أليست آلة الإعلام الروسية شبه مكرسة لرمي كل اللوم على أميركا كمعرقل لحل في سوريا؟! إذا استطاع بوتين إعادة تكرير الدكتاتورية الإجرامية الأسدية، هل ستتجرأ أميركا على انتقاد أو وقف أي انتهاك لحقوق الإنسان أو أي توتر أو اضطراب في عالمنا؟!

ما نفع أن يرفع السيد "بايدن" شعار خفض التوترات والاضطرابات في العالم، في ظل هذا التراخي وإدارة الظهر؟! وهل مازالت إدارته، بعد أن "بلورت" سياستها تجاه القضية السورية، تسير على "عقيدة أوباما"، بأن التدخل الروسي في سوريا "مغامرة، ستكون مستنقعاً لن تتمكن روسيا من الخروج منه"؟ وهل ينفع أن تواسي هذه الإدارة نفسها، بأن بوتين ليس إلا مجرد انتهازي ومناور لن يدوم حكمه طويلاً؟! ألم يحن الوقت للتوقف عن الاستخفاف بهذا الطغيان؟!

إجابة أميركا على هذه الأسئلة البلاغية لن تنقذ هيبة أميركا والغرب فحسب، وإنما ستكون إنقاذاً للعالم من ظواهر موتورة -لكن هادئة- تمتلك قوة جبارة، وتعيش على التوترات والاهتزازات العالمية. وأول خطوة في هذا الاتجاه الصحيح إنقاذ سوريا من براثن ذلك الطغيان ومخالب إيران الخبيثة.

هذا ليس دعوة لتأجيج صراع، وانما للحد من تفاقمه. لا نريد حرباً حامية أو باردة، وإنما صحوة إلى ما ينتظر عالمنا من مآسٍ، نكون وقودها؛ وخاصة نحن كسوريين، دفعنا ما لم يدفعه شعب في التاريخ الحديث. فعندما يصرّ بوتين على إعادة الكابوس عبر تكرير منظومة استبدادية فعلت بسوريا ما فعلت بدعمه، وعلى عين تلك الرئاسات الأميركية خارقاً بعض قرارات أميركية وغربية، قد توصل سوريا إلى حل منقذ ينهي مأساتها؛ فهذا عبث، ليس فقط بمصير بلد وشعبه، بل بالتوازن العالمي.