بنو أمية اليوم بين دمشق ومدريد

2022.08.16 | 06:35 دمشق

بنو أمية اليوم بين دمشق ومدريد
+A
حجم الخط
-A

يكاد لا يمر يوم على صفحات التواصل الاجتماعي لا يتم فيه ذكر عصر بني أمية، وعظمة دولتهم ورفعة تاريخهم، ومن ثم مقارنته بالوضع الحالي، وخاصة بما تمر به سوريا مركز دولة الأمويين من ظروف استثنائية من التدهور والانحطاط.

للأمويين أيضا غير دمشق عاصمة أخرى في أقصى الغرب، وحاضرة أكثر لمعاناً وإبهاراً، قرطبة أو غيرها من المدن الأندلسية في إسبانيا، والتي تقدم حواضرها القائمة سرداً جارحاً لخسارة العرب، والمقصود هنا ليس خسارة جغرافية أو معركة بين جيشين، بل إن تراجع الأندلس ثم انحسارها كان عنوانا لبداية خسارة العرب - من ناحية الدولة العربية بمضمونها الثقافي وليس العرقي – الحضارة.

رغم أن الجغرافيا السياسية تتبدل دائماً بما تفرضه معطيات القوة والمال والسلطة والحداثة، تبقى الديمغرافيا أكثر صموداً وثباتاً، تحاول أن تكيف نفسها مع مفرزات الجغرافيا السياسية الطارئة، وانتقال رصيد القوة من جهة لأخرى. هذا ما حدث مع الأندلسيين، مسلمي إسبانيا، أو المورسكيين كما تتم تسميتهم بعد تحولهم للمسيحية قسراً.

كان التعامل مع المورسكيين أو المسيحيين الجدد يختلف بين مقاطعة وأخرى، رغم أنه اتسم في معظمه بعدم التسامح

بُعَيد سقوط آخر حواضر الدولة العربية في الأندلس غرناطة أعلن ملوك قشتالة عام 1499 المرسوم الأحمر، وذلك نسبة لقصر الحمراء الذي تم تعليق المرسوم عليه، وينص المرسوم على تحول كل من اليهود والمسلمين للديانة المسيحية، وحصرياً الكاثوليكية، وإلا عليهم الخروج أو مواجهة عقوبة القتل، وتحول على إثر ذلك العديد من المسلمين للمسيحية ظاهراً في حين حافظ كثير منهم على إسلامهم سراً، وأبقوا على عاداتهم وتقاليدهم.

كان التعامل مع المورسكيين أو المسيحيين الجدد يختلف بين مقاطعة وأخرى، رغم أنه اتسم في معظمه بعدم التسامح، وزادت الهوة بين الاندماج في المجتمع المسيحي والإبقاء على العقيدة الإسلامية التي باتت سرية أو حتى التحول الحقيقي للمسيحية الظروف السياسية التي ترافقت مع صعود الإمبراطورية العثمانية وتمثيلها قوة إسلامية ضاربة في المتوسط، مما أثار قلق المملكة الإسبانية، وبدأت ترى في المورسكيين خطراً داخلياً، مما أدى إلى إنهاء بعض إجراءات التسامح التي كانت ما تزال متبعة في إسبانيا.

سيصدِر الملك فيليب الثاني عام 1567 مدفوعاً بالظروف السياسية ورسائل تحريضية من رجال دين مسيحيين يعبرون عن يأسهم من تحول المورسكيين الحقيقي للمسيحية مرسوماً يقضي بمنع مظاهر الثقافة المورسكية وعلى رأسها حظر استخدام اللغة العربية وارتداء الملابس التقليدية العربية "المورسكية"، إضافة إلى منع السكان من التسمي بأسماء عربية. سيؤدي ذلك إلى ثورة البشرات (نسبة للمكان الذي انطلقت منه) عام 1568 التي شارك فيها عشرات الآلاف من المورسكيين، وحتى تكتسب تلك الثورة شرعية تم مبايعة فريناندو دي فالور، وهو الاسم الإسباني لشخصية تُدعى محمد بن أمية، وتعود أصوله لعبد الرحمن بن هشام المعروف تاريخياً بعبد الرحمن الداخل أو صقر قريش، وسيعلن الثوار بن أمية قائداً لهم ووريث عرش بني أمية. لن يطول الأمر بالثورة حتى يتم إخمادها بعد ثلاث سنوات.

سيدفع ظرف سياسي آخر بقرارات أكثر إقصاء بحق المورسكيين بعد ما يقارب خمسين عاماً، حيث سيؤدي تقارب العلاقات بين المملكتين المغربية والهولندية وتسليم الأخيرة أسلحة متطورة للأولى إلى صدور مرسوم الطرد الخاص بمورسكيي بلنسية عام 1609، لتتبعه مراسيم طرد أخرى في كل المقاطعات. دعم المرسوم الملك والطبقة الارستقراطية لأنه مكنهم من حيازة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمهجَّرين بعد طردهم، في حين ساند الكثير من أبناء المجتمع الطرد نتيجة منافسة المورسكيين الذين شكلوا في معظمهم فلاحين فقراء غير ملاك لهم على العمل بأجور رخيصة.

ما زال كثيرون من الذين يتباكون على حكم بني أمية يصرون على تلك النسخة القديمة منهم، تلك النسخة التي لا يمكن اليوم تقييمها بمعطيات معاصرة

حتى تلك المرحلة شكل نسل بني أمية جزءاً من مجموع المورسكيين، منهم من هاجر ومنهم من بقي في إسبانيا، وانتشرت أسماء عائلات إسبانية تم أخذها من الكنية الأصلية مثل بنوخومية أو Benjumie أو بن حميدة أو بن أمية أو غيره، وتتوزع في مناطق مختلفة في إسبانيا، وقد صدرت دراسات حديثة تقول بأن ما يقارب 10٪ من سكان إسبانيا ما زالوا يحملون أسماء عائلات عربية، و15 ٪ منهم مسلمون، في حين الباقي باتوا مسيحيين، ويحافظ جزء لا بأس منه على عاداتهم الأموية القرشية، في حين تمسك الجزء الأكبر منهم باللقب، واندمجوا في المجتمع الإسباني، وفي الديانة المسيحية مع فخرهم بانتمائهم التاريخي. ورغم أن دمشق هي عاصمة الأمويين، فإن مدريد هي الأكثر حضوراً لنسل بني أمية، حيث شغل عدد منهم مناصب سياسية كما كان مع خوليو بن أمية وزير الطيران في عهد فرانكو ما بين 1969 حتى 1974، ونائبة البرلمان الأوروبي الحالية عن الحزب الشعبي الإسباني ايزابيل بن أمية، ومنهم من دخل في ريادة الأعمال وأبرزهم عملاق الطاقة خافيير بن أمية صاحب أكبر شركة طاقة إسبانية ((Abengoa وغيرهم من الفنانين والمثقفين.

استطاع بنو أمية، أو الذين تكيفوا مع العصر منهم، أن يجدوا نوافذ أخرى لهم في المجتمع الجديد، واعتزوا بأصولهم وثقافتهم اعتزازاً لم يضعهم خارج العصر أو ضده، في حين ما زال كثيرون من الذين يتباكون على حكم بني أمية يصرون على تلك النسخة القديمة منهم، تلك النسخة التي لا يمكن اليوم تقييمها بمعطيات معاصرة، وبالتالي لا يمكن إعادة بنائها ضمن معطيات عصرها في عصرنا الحالي. لا يعِ هؤلاء وغيرهم من الذين يتمسكون بالصياغات التاريخية الموغلة في القدم نمطاً صالحاً للإحياء والتكرار، لا يعِ هؤلاء أن مشاريعهم لا تؤول للفشل أو الدم نتيجة عامل خارجي فحسب، فالعامل الداخلي الذاتي التدمير متوفر لدى هؤلاء الأفراد والمجموعات قبل أن يكون أي أحد ضدهم، لأنهم هم بحد ذاتهم ضد العصر، صراعاتهم وأدواتهم ورسائلهم وأهدافهم في معظمها غريبة عن هذا العصر، غريبة تماماً.

كلمات مفتاحية