بل طريق حلب.. تَمُّرُ من القدس

2020.12.06 | 23:07 دمشق

hmas_.jpg
+A
حجم الخط
-A

خلال انتظاري خارج مكتب الآنسة "زينب" رئيس مكتب شؤون طلاب الدراسات العليا، في كلية العلوم السياسية – جامعة دمشق، العام 2009، أشغلت نفسي بقراءة أسماء الطلاب المقبولين في قسم الماجستير للدفعة الدراسية التي تلينا، لفت انتباهي اسم إحدى الطالبات المقبولات.. وعند خروج الآنسة "زينب"، بادرتها بالسؤال: هل تعرفين هذا الاسم؟ فأجابت: لا، فقلت لها هذه ابنة الدكتور "كمال اللبواني"، ألا تعرفينه ؟، فأجابت: لا.. مَن يكون؟، فقلت لها: هو معارضٌ سياسيٌ مسجونٌ حالياً.. امتقع وجه الآنسة، وأجابت: لا أعرفه.

في الفترة ذاتها، صدرت عن نظام الأسد تصريحات تحمل لهجة مرنة نسبياً تجاه جماعة الإخوان المسلمين، لم تتعدّ تلك التصريحات الجانب الإعلامي، فقد كانت فارغة المضمون، والأرجح أنها صدرت إرضاءً لتركيا وقطر، اللتين كانتا ترغبان بإحداث انفراجة سياسية في سوريا، بما يتعلق بملفين رئيسين، هما: المفاوضات مع إسرائيل، وكسر حدة العداوة بين النظام وجماعة الإخوان؛ تلقف الطالب الأول في قسم العلاقات الدولية، تلك التصريحات، وراح يسأل المدرسين عن رأيهم بها، ما زلت أذكر جيداً إجابات مدرس مادة "نظريات العلاقات الدولية"، ومدرس مادة "النظم السياسية المقارنة"، إلا أن المفاجئ كانت ردة فعل مدرس مادة "السياسات الخارجية المقارنة"، الذي بدأ يستجوب صديقي كما لو كان محققاً بالمخابرات..

في كلية العلوم السياسية، وفي سوريا عموماً، لم يكن مسموحاً الحديث في السياسة، وبشكلٍ عامٍ لم يكن مسموحاً بأي سؤالٍ أو نشاطٍ في مجال الشأن العام، فالأمن وحده من يدير البلاد، وبالأمن وحده تُدار، وحين نقول الأمن لا نعني به الأمن القومي أو الوطني، فتعريف الأمن والوطن مختزلٌ في شخص الحاكم، وعائلته الوريثة؛ "سوريا الأسد" لم تكن يوماً وطناً، ولا بلداً، ولا دولة.

ما الذي ذكرني بهذه الوقائع؟

ذكرتني تصريحات السيد "خالد مشعل" الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، التي ذكر فيها لقاءه مع السيدين "أبو أنس – علي البيانوني" المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين السوريين، و"أبو حازم – رياض الشقفة" المرشد العام السابق للجماعة، على هامش مؤتمر لدعم القدس، قبل أيام قليلة من انطلاق الثورة السورية، حيث قال لهما السيد "مشعل": ‘‘يا إخوان من حقكم أن تكون لكم ملاحظات على السياسة الداخلية السورية، وأنتم شعبٌ لا أستطيع منعه من رفع شعارات الحرية والديمقراطية، لكن سوريا كبلد له سياسةٌ خارجيةٌ ممتازةٌ، يحتضن المقاومة، لا تعملوا أداء يشبه البلاد الأخرى، حاولوا تعملوا مقاربة مختلفة’’..

ارتكب السيد "مشعل" – برأيي المتواضع الذي لا يعتد به – جملةً من المغالطات والأخطاء التي تصل حد "الكفر السياسي"، الذي لا يمكن أن يصدر عن أدنى مطلع أو متابع للشأن السوري، والعربي، فما بالك برئيس مكتب سياسي لواحدة من أكبر وأشهر الحركات المقاومة العربية، والذي أقام في سوريا سنواتٍ طويلةٍ، وهو بلا شك كان مطلعاً على مختلف جوانب الحياة فيها.

من حق السوريين أن تكون لهم (ملاحظات) على السياسة الداخلية للنظام، ومن حقهم أن يرفعوا (شعارات) الحرية والديمقراطية أيضاً،.. الصراحة يعني: كتر خيرك يا أبو الوليد.

خمسون عاماً من الاستبداد، والحكم الأمني، والطائفية، والفساد، والإفقار، ونهب الثروات لا مانع أن تكون للسوريين مجرد (ملاحظات) عليها، أما الحرية التي لا يمكن للإنسان العيش بدونها، والتي من أجلها نشأت حركات سياسية، كحماس، فلا يُمانع السيد "مشعل" من رفعها كـ (شعار) من قبل الشعب السوري..

- طيب لماذا يا سيد "أبو الوليد"؟

- لأن سوريا كبلد له سياسة خارجية ممتازة، ويحتضن المقاومة..!

ليس من حق الشعب أن تكون له ملاحظاتٌ على سياسة نظام بلاده الداخلية، فالصحيح أن الشعب هو صاحب الحق الأصيل بوضع السياسات الداخلية والخارجية

للأسف، أجدني مضطراً لشرح بعض الأمور البديهية للسيد "مشعل"، أولاً: الجهة التي وُجه لها الخطاب – قيادة جماعة الإخوان المسلمين السورية – لم تكن هي التي أشعلت الثورة، بل الشعب السوري من أشعلها، وهو ذاته الشعب الذي استضاف قبل 72 عاماً، أشقاءه الفلسطينيين، ومنحهم في العام 1956، حقوقهم المدنية والإنسانية، بموجب القانون رقم (260)، الصادر عن البرلمان السوري المنتخب، حين كان حافظ الأسد مجرد ملازمٍ في الجيش، والبعث خارج السلطة، وبشار الأسد لم يولد بعد، ثانياً: ليس من حق الشعب أن تكون له ملاحظاتٌ على سياسة نظام بلاده الداخلية، فالصحيح أن الشعب هو صاحب الحق الأصيل بوضع السياسات الداخلية والخارجية، والتي من المفترض أن تكون لخدمته، وصيانة حقوقه في الحياة، والحرية، والعدالة، والأمن، والرفاه، وغيرها..، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر الدولة ومن خلالها، لا عبر الحاكم المستبد، وهو ما يقودني للنقطة الرابعة، لفظة "بلد" التي استخدمها السيد "مشعل"، والتي أعتبرها تلاعباً لفظياً، فسوريا من المفترض أن تكون دولةً، والدولة بالتعريف: هي أرضٌ يملكها شعبٌ ذو سيادةٍ، والشعب السوري لا يملك أرضه، وليست له سيادة، لأنه ببساطةٍ يخضع لاحتلالٍ داخليٍ يفوق في استبداده وقمعه، الاحتلال الخارجي، وعليه يكون السؤال: كيف يستقيم أن نظاماً يحتل شعبه ويستعبده، أن تكون له سياسة خارجية لدعم شعبٍ آخرٍ مُحتَل؟.

ميزان السياسة الشرعية:

يقول النبي، عليه الصلاة والسلام: (خيركم، خيركم لأهله)، والكثير من الأحاديث والآيات المعروفة في باب "السياسة الشرعية" التي تتبناها جماعات الإسلام السياسي، هل يا تُرى، وجد السيد "مشعل" أساساً لها في سياسات النظام الداخلية، حتى يطلب من السوريين الاكتفاء بـ "الملاحظات"؟

التقيت بشباب فلسطينيين من الضفة الغربية وغزة، أحدهم قريب الشهيد "يحيى عياش"، وقد أكدوا لي أن وضع الأراضي المحتلة على المستوى الحياتي، من حيث العمل، والتعليم، والصحة، والأجور، وغيرها..، في ظل الاحتلال الإسرائيلي المباشر، قبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987، كانت أفضل بكثير من حياتهم بعد اتفاقية أوسلو، وتأسيس السلطة الوطنية 1994، وأفضل بما لا يقارن بعد وصول حماس للحكم عام 2006، هل تقبل معايير "السياسة الشرعية" منا، أن يكتفي الشعب الفلسطيني بمجرد (ملاحظات) على الاحتلال الإسرائيلي؟ لماذا انتفض الفلسطينيون؟ ولماذا يطالبون بالدولة؟ ولماذا يحاربون منذ ما يزيد على 90 عاماً: أليس من أجل الحرية، والدولة؟

السياسة الخارجية الممتازة واحتضان المقاومة

لماذا خرجت حماس من سوريا مطلع 2012؟، هنا سنكتشف التناقض الرئيس في خطاب السيد "مشعل"، حماس أُخرجت من سوريا، لأن النظام لم يعد راضياً عن موقفها من الثورة. أين ذهبت إذن، السياسات الخارجية الممتازة!؟، الحقيقة أنها لم تذهب لمكان، لأنها لم تكن موجودة أساساً، وكل ما في الأمر أن السياسات الحقيقية تكشفت، تجلى ذلك بتصريح أحد أركان النظام، بداية الثورة: أن أمن إسرائيل من أمن النظام..

هل اهتم السيد "مشعل"، أو سأل عما كان يجري للفلسطينيين في مخيم حمص، حين كان يصرح حليفه "نصر الله": ما في شي بحمص؟!

بعيداً عن تاريخ "حافظ الأسد" وسياساته القاتلة تجاه المقاومة الفلسطينية، ابتداءً من رفضه إرسال قواته الجوية لإنقاذها في أيلول الأسود 1969، رغم أوامر "صلاح جديد"، مروراً بتدخله في لبنان، وما قام به من مجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين هناك، لن نطالب السيد "مشعل" بالاهتمام لأمر السوريين، سنطالبه بالاهتمام لأمر الفلسطينيين – رغم رفضنا لهذا التمييز – فهل اهتم السيد "مشعل"، أو سأل عما كان يجري للفلسطينيين في مخيم حمص، حين كان يصرح حليفه "نصر الله": ما في شي بحمص؟!

إن أراد السيد "مشعل" أستطيع تزويده بقائمة أسماء شهداء ومعتقلين في سوريا، لا من الفلسطينيين فحسب، بل من كوادر ومناصري حماس بالذات، ولعله من المفيد أن أطلب منه الاتصال بحكومته في غزة، لتسأل زوجة الشهيد "يوسف المبيض"، الذي أعدمته قوات النظام السوري ميدانياً، بطلقات مباشرة في الرأس مع ولديها "خليل"، وأخي "يامن"، أوائل شهر تشرين الأول 2012، على أطراف مدينة قدسيا، وتُركت جثثهم ملقية تحت الشمس لأيامٍ، قبل أن يتم نقل جثثهم إلى مكان مجهول..

طريق القدس لا تمر من القصير، وداريا، وحلب.. فطرق التحرير والانعتاق لا تمر عبر أشلاء الأبرياء، وعلى أنقاض المدن المدمرة، وبشعارات المقاومة الكاذبة، وإن كان السيد "مشعل" لا يعرف هذا، فليسأل عن الطريق الذي سلكه الشهيد: محمد قنيطة "صقر القسَّام"، فلربما يعرف.