بعد عقد من الجرائم في سوريا.. لماذا لا يزال الجاني طليقاً؟

2021.04.10 | 07:06 دمشق

1irpd.jpeg
+A
حجم الخط
-A

دمر البلاد وحولها إلى مقبرة جماعية، نشر الفوضى، ودمر المشافي والمدارس، وأجبر أكثر من 13 مليون على ترك منازلهم والنزوح داخل بلادهم أو اللجوء عبر الحدود بسبب العمليات العسكرية واستخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، ولا يزال الملايين داخل سوريا يواجهون العوز والفقر، وحمَّل الاقتصاد كلفة مالية تزيد عن 1.3 تريليون دولار، وقتل مئات الآلاف بينهم أكثر من 55 ألف طفل، وفكك النسيج الاجتماعي وقوض الثقة بين السوريين، وارتكب جرائم مروعة باسمه يندى لها جبين الإنسانية وما يزال خارج أقفاص العدالة الجنائية! بل يعمل بشار الأسد على الاستئثار بالسلطة لسبع سنوات أخرى من خلال انتخابات غير شرعية لا يعترف بها الشعب السوري وعموم المجتمع الدولي لأن نتائجها محسومة مسبقاً كسابقاتها.

رغم كل ذلك تتعالى أصوات بعض الدول العربية بضرورة إعادة نظام بشار الأسد إلى منظومة الجامعة العربية مع اقتراب موعد انعقاد القمة العربية خلال الأيام المقبلة، بعد عشر سنوات على تجميد مقعد سوريا عام 2011، وتراهن هذه الدول على أن بشار الأسد قادر على تحقيق مصالحها على الساحة السورية، وهذا رهان خاسر وفقاً للمبدأ القانوني القائل "فاقد الشيء لا يعطيه"، فنظام بشار الأسد بات اليوم متهالكاً غارقاً في أزمات كثيرة لا يملك الخروج منها، بل هو بحاجة لمن يساعده لتجاوز أزماته.

قبل أيام أشار غير بيدرسون مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا إلى أن "الصراع الوحشي الذي يلف سوريا" قد استمر لفترة أطول من الحربين العالميتين مجتمعتين. وأضاف أن هناك "بصيصاً إيجابياً" لما سماه "الهدوء النسبي" الموجود الآن في سوريا، مشدداً على ضرورة استغلال الوضع لإحراز تقدم في تسوية سياسية. لا نعلم عن أي تسوية سياسية يتحدث بيدرسون، عن تلك التسوية الوهمية التي يمكن أن تساهم بها اللجنة الدستورية التي أغرقها بيدرسون بمصطلحاته العائمة، كما أغرق سلفه ديمستورا هيئة المفاوضات بمبادراته التي شتَّت أي جهود للتوصل إلى حل سياسي طوال أربع سنوات.

جميع المسارات السياسية والقانونية والقضائية ما تزال معطلة بسبب التجاذبات السياسية ومصالح الدول الفاعلة

أي تسوية سياسية لا تتضمن تحقيق العدالة الانتقالية ومحاكمة كل من ارتكب جرائم وانتهاكات بحق الشعب السوري وعلى رأسهم الدكتاتور بشار الأسد لا يمكن قبولها ولن تعيد الأمن والاستقرار لسوريا ولا تمنح أي حكومة مقبلة الشرعية المطلوبة. لكن ما الذي أعاق محاكمة هذا الدكتاتور وحكومته الاستبدادية المتوحشة؟ رغم ارتكابه العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واستخدام الغازات السامة والأسلحة الكيماوية ضد المدنيين طوال السنوات الماضية والتي ما تزال مستمرة حتى الآن، وما الذي جعله يصمد كل هذه السنوات على رأس السلطة؟ هذا السؤال يحتمل العديد من الإجابات، الإجابة التي يمكن أن تخطر على بال العديد من السوريين هي لأن المجتمع الدولي والأطراف الفاعلة في القضية السورية سمحت له بالاستمرار في السلطة، لكن لكل منها مصالحه الخاصة التي يرمي إلى تحقيقها وراء ذلك، إضافة إلى التجاذبات السياسية داخل مجلس الأمن الدولي التي عطلت إحالة جرائم النظام إلى المحكمة الجنائية الدولية، والتدخل العسكري الروسي والإيراني اللذين أنقذاه من السقوط في اللحظة الأخيرة، وضعف المعارضة السياسية وتشتت العسكرية منها وارتهان قرارها للداعم الدولي، والتضليل الإعلامي الذي اتبعته وسائل إعلام النظام ومؤيديه في حرف الرأي العام العالمي، إلى جانب ظهور التنظيمات الإسلامية المتشددة التي ساهمت في تعزيز رواية النظام في محاربة الإرهاب لدى معظم الدول الغربية وشعوبها.

حتى الآن، جميع المسارات السياسية والقانونية والقضائية ما تزال معطلة بسبب التجاذبات السياسية ومصالح الدول الفاعلة، رغم صدور العديد من القرارات والتقارير الدولية، فقد أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة منذ عام 2011 أكثر من 20 تقريراً دانت النظام وقواته وأجهزته الأمنية بارتكاب العديد من الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان بما فيها التغييب القسري والاغتصاب والتعذيب لعشرات الآلاف من المعتقلين في سجونه ومعتقلاته، إضافة إلى عشرات التقارير والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية وبعثات تقصي الحقائق ولجان التحقيق المشتركة، والآلية الدولية المحايدة المستقلة التي تم تشكيلها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016 للمساعدة في التحقيق بشأن الأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة بموجب القانون الدولي المرتكبة في سوريا منذ 2011. استطاعت هذه الآلية الدولية وحدها حتى الآن جمع أدلة حول الجرائم المرتكبة في سوريا بحجم 79 تيرابايت، وفتحت نحو مليوني سجل رقمي لتوثيق الجرائم وإفادات الشهود بحسب التقرير الأخير الصادر عن الآلية في الثاني من شباط المنصرم. كما خصصت الآلية مستودعا مركزيا لحفظ الأدلة الرقمية بسعة تخزينية تستوعب 1.7 بيتابايت من البيانات، وأنشأت وحدة أدلة للمقاضاة على تهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتقوم بإطلاع بعض الدوائر القضائية المختصة على هذه الوحدة، في حين تعمل الآلية على إعداد ملفات لتيسير وتسريع السير في إجراءات جنائية عادلة ومستقلة، وفقاً لمعايير القانون الدولي، في المحاكم الوطنية أو الإقليمية أو الدولية التي لها – أو قد ينعقد لها مستقبلاً- اختصاص بهذه الجرائم، رغم ذلك لا يزال المسار القضائي يراوح مكانه باستثناء بعض المحاكمات هنا وهناك في بعض الدول الأوروبية على أساس الولاية القضائية العالمية.

مع ذلك، تقول الغارديان إن بشار الأسد ليس بمنأى عن المحاسبة رغم مرور عقد على الحرب، لا يمكن السماح لانتصار الاستبداد والجمود والإفلات من العقاب، وإلى أن يقف الأسد في قفص الاتهام، فإن الحرب السورية لن تنتهي، وإذا كان هناك أي تعويض في نهاية المطاف، فمن المرجح أن يأتي في شكل إجراءات قانونية لأن هذا فقط يوفر طريقة واقعية لجعله يدفع ثمن جرائمه. وإذا استمرت روسيا والصين في إعاقة المحكمة الجنائية الدولية في مجلس الأمن، فيجب على بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأخرى ذات التفكير المماثل أن تتحد من أجل إنشاء محكمة جنائية دولية مخصصة لسوريا.

لطالما كان الإفلات من العقاب كارثة لجميع أنواع العنف في كل أنحاء العالم، ويعتبر بشكل عام قوة دافعة وراء انتهاكات حقوق الإنسان. بالرغم من التغييرات في القانون والرأي الدوليين منذ الحرب الباردة، لا يزال الإفلات من العقاب سائداً في العديد من البلدان بما فيها سوريا، ولا تزال الحكومات الغربية على استعداد للتغلب على العدالة بالسياسة. وحتى الآن، باستثناء عدد قليل من الملاحقات القضائية في الدول الأوروبية، كان هناك إفلات واسع النطاق من العقاب على الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا. مع ذلك، يمكن فهم الإفلات من العقاب في سوريا على أنه ثقافة أمنية مهيمنة لعبت دوراً مهماً من خلال اللجوء عدة مرات إلى ارتكاب جرائم دولية ضد المدنيين دون أي مساءلة من قبل المجتمع الدولي، وساعدت في خلق بيئة مواتية لمتابعة الحرب ومواصلة أهدافها وأساليبها المتغيرة.

إن ما تقوم به حالياً الآلية الدولية المحايدة المستقلة من جمع أدلة حول الجرائم الأكثر خطورة في سوريا يوفر أملاً ملموساً للعدالة في سوريا

على سبيل المثال كان هناك إجماع شبه عالمي يدين استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، بالرغم من ذلك، لم يتمكن المجتمع الدولي من إحراز تقدم في محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا بسبب الخلافات السياسية والتفاعلات بين الدول داخل مجلس الأمن الدولي بالرغم من الأدلة الكبيرة التي جمعتها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وتأكيد مجلس الأمن في أوقات مختلفة على أن استخدام الأسلحة الكيماوية يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، وشدد على وجوب محاسبة المسؤولين عن استخدامها. ونظراً لأن سوريا ليست طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من المستبعد جداً إحالة مجلس الأمن القضية السورية إلى هذه المحكمة بسبب الفيتو الروسي. فشل مجلس الأمن في التصرف - إما من خلال إحالة الجرائم المرتكبة في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء محكمة جديدة - قوض شرعية هذه المحكمة باعتبارها المنبر الدولي المختص لمعالجة مثل هذه الجرائم الخطيرة، وترك سجلاً كبيراً من الإفلات من العقاب ومئات الآلاف من الضحايا من دون عدالة أو إنصاف.

 أخيراً، يمكن القول إن ما تقوم به حالياً الآلية الدولية المحايدة المستقلة من جمع أدلة حول الجرائم الأكثر خطورة في سوريا يوفر أملاً ملموساً للعدالة في سوريا، ويمثل إنشاؤها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بلورة مهمة لنهج جديد ومهم للعدالة الجنائية الدولية، وعلامة تُذكّر الفاعلين السياسيين والدبلوماسيين بأن الجرائم في سوريا لن تُنسى بسهولة أو تُنحّى جانباً.