بديل سياسي أم بديل ديمقراطي؟

2021.01.09 | 00:05 دمشق

2019-07-29-decentralization-syria-1440x835.jpg
+A
حجم الخط
-A

يرى كثير من الباحثين وعلماء الاجتماع والسياسة أن النظام السياسي الديمقراطي ليس النظام الأمثل للحكم، ولكنه النظام الأفضل بين الأنظمة الموجودة، كما أنه لا يوجد نظام ديمقراطي أمثل بين الأنظمة الديمقراطية نفسها، فالديمقراطية نسق تفاعلي تحدد ديناميات فعله ومدخلاته ومخرجاته البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، مما يجعل كل نظام سياسي ديمقراطي هو شكل مستقل بحد ذاته.

وهذا لا يعني عدم وجود مشتركات بين الأنظمة الديمقراطية، بل يعني أكثر أي أنه مهما بلغت المشتركات في كل نظام ديمقراطي حداً بعيداً، فإنها تظل عاجزة عن التطابق من ناحية فرض كل عملية اجتماعية في بلد ما لخصوصيتها على شكل العملية السياسية برمتها، وتبقى أزمة الديمقراطية الدائمة غير المعلومة الخاتمة عاجزة عن موازنتها بين قيمها (معاييرها) الرئيسية الثلاث، المساواة والعدالة، والأكثر حداثة، الحرية، فإن تقدم أي معيار يعني بضرورة الحال انحسار المعيار الآخر، فهل من العدالة على سبيل المثال أن يحدد شكل الحكم مجاميع من المواطنين الذين لا يمتلكون الإمكانات الفكرية (مستوى تعليم، مستوى ثقافي …) بما تمليه عصبيات أو توجهات إيديولوجيا قد تودي بالديمقراطية للسقوط، في الوقت نفسه فإن الديمقراطية قائمة بجوهرها على اعتبار الإنسان مخلوقاً عقلانياً راشداً يستطيع أن يصنع قراره بنفسه، وإن التمييز بين البشر على أي أساس (تعليمي، اقتصادي، عرقي، طائفي..) يضرب القيمة الأخلاقية المركزية للديمقراطية المتمثلة بالمساواة بين البشر، في الوقت نفسه فإن تلك المساواة والتسليم بقرار الأغلبية يهدد الحريات العامة والخاصة بالخطر من خلال سن أكثرية معينة قوانينها وبالتالي فرض نمط حياة معين على الأقلية، مما يؤدي إلى تدهور المعيار الثالث المتمثل بالحرية.

إن العلاقة بين القيم الثلاث للديمقراطية علاقة موسومة بالتوتر ومرهونة بلعنة ضعف التوازن، وكأنها تخضع لمسار أحادي البعد، زيادة إحداها تعني نقصا في الأخرى، وهذه العلاقة المتوترة تمثل بأساسها وبضرورتها وأولويتها في المجتمعات الفروق بين نظام ديمقراطي وآخر، وقوانين هنا وأخرى هناك، وكل محاولات الدول التي نحت نحو الديمقراطية هي محاولات لصوغ عملية سياسية تستطيع من خلال قوانينها فرض توازن بين تلك القيم الثلاث وواقع المجتمع وطبعاً ما ”يجب أن يكون عليه“.

يسود العالم الديمقراطي أو ”شبه الديمقراطي“ ثلاثة أشكال من أشكال الوصول للسلطة، وتنطلق طبعا من النظام التمثيلي للديمقراطية، فإن الديمقراطية المباشرة، ورغم المناقشات الكثيرة التي أثيرت وتثار حولها خلال العقدين الماضيين، والتي كانت قبلهما أشبه بنقاشات رغبوية استطاعت أن تستأثر على شيء من الجدية بعد تطور وسائل التواصل الاجتماعي والقدرة على خلق نمط من الديمقراطية  ”التفاعلية“، رغم كل ذلك تبقى تلك الديمقراطية المباشرة شيئا من الماضي يصعب العودة إليه، وتظل الديمقراطية التمثيلية هي الأنسب لصناعة القرار في الدول الديمقراطية.

رغم أن القاعدة المركزية للديمقراطية تقضي بأن يكون القرار لصاحب الأغلبية، فإنه يتم التعامل لتأطير ذلك الحق ووضع محددات تصوغ نمطاً آخر من صنع القرار

نعود للأشكال الثلاثة للوصول للسلطة عبر تمثيل مجموعة من المواطنين باقي مجموع المواطنين من خلال التصويت لهم بما يشبه التفويض بالحق في المشاركة في صنع القرار، ورغم أن القاعدة المركزية للديمقراطية تقضي بأن يكون القرار لصاحب الأغلبية، فإنه يتم التعامل لتأطير ذلك الحق ووضع محددات تصوغ نمطاً آخر من صنع القرار سواء بحق المعارضة أو بتنشيط المجتمع المدني وانبثاق أشكال أخرى ”غير تقليدية“ من المشاركة السياسية بدأت منذ أواسط القرن الماضي، أو بالأحرى بدأ التنظير لها وتعريفها في إطار المشاركة السياسية منذ ذلك الوقت. على ذلك تبقى العملية الانتخابية هي العملية المركزية في المشاركة في صنع القرار وصاحبة التأثير الأكبر على المجتمع السياسي في النظام الديمقراطي، لأنها عملية مكثفة لإعادة تشكيل هذا المجتمع. إن تلك الأشكال الثلاثة حاليا تتمثل بالديمقراطية التنافسية والديمقراطية النسبية والديمقراطية المختلطة.

تُحدَّد الديمقراطية التنافسية من خلال قانون انتخابات يضع فوز الأكثرية معيارا لشرعية الحكم، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يجري استفتاء شعبي على انتخاب الرئيس والذي يفوز بالغالبية يحق له أن يتسلم رأس السلطة التنفيذية في البلاد، وهي منفصلة بشكل تام عن السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان لأن شرعيتها تتأتى من المحكومين بشكل مباشر، في حين الديمقراطية النسبية، فهي التي تعتمد الانتخابات النسبية التي تُبنَى على تمثيل الأحزاب السياسية في المجلس التشريعي بعدد المقاعد التي تتحصل عليها عبر الأصوات، وبالتالي يتم تمثيل كل الفئات الاجتماعية في عملية صناعة القرار في الدولة من خلال التأثير عليها تأييدا أو اعتراضاً. الشكل الثالث هو المختلط من خلال التمثيل النسبي عن طريق انتخاب القوائم الحزبية والتنافسي عن طريق الانتخاب المباشر للمرشح المنتخب.

في إطار الديمقراطية النسبية ظهر أيضا مفهوم الديمقراطية التوافقية حيث تتم عملية صنع القرار بين الحكومة والمعارضة بشكل توافقي يؤدي بذلك إلى استصدار قوانين قد توافقت عليها مختلف فئات المجتمع، كما هو الأمر في سويسرا والدنمارك وبلجيكا وبشكل أقل ظهوراً في ألمانيا، ولكن من المثير للضحك أن النظامين اللبناني والعراقي يطلقان على نفسيهما اسم الديمقراطية التوافقية.

من المفارقة المضحكة للنظام اللبناني والعراقي ينطلق السؤال الملح في سوريا، أي نوع من الديمقراطيات يناسب سوريا ويشكل مستقبلاً أفضل في حال تمت إزاحة النظام الديكتاتوري، هل الديمقراطية التنافسية هي الشكل الأنسب أم النسبية؟

الديمقراطية الحديثة هي نظام تخريبي إذا ما ساده الاستقطاب الإيديولوجي، ذلك الذي يسعى للحد من المشاركة الواسعة وفرض قرار الأغلبية على الأقلية

يجمع علماء الاجتماع والسياسة على أن النظام النسبي من حيث المبدأ يشكل نظاماً أكثر ديمقراطية من النظام التنافسي من ناحية خلق فرص أكبر على الاتساع في المشاركة في صنع القرار، وبالتالي فإنه أكثر ديمقراطية، وخاصة في المجتمعات التي تضم في فئاتها مجاميع إثنية وعرقية، ولكن في الوقت نفسه فإن النسبية قد تكون عاملاً في ترسيخ الانشقاقات الاجتماعية، وخاصة مرة أخرى في المجتمعات التي تضم في فئاتها مجاميع إثنية وعرقية، فما الحل في الحالة السورية؟ وما الذي يمكن أن تنجح فيه التجربة النسبية في سوريا وهي لم تستطع تحقيق ذلك النجاح في العراق ولبنان التي تتشابه في كثير من مكونات نسيجها الاجتماعي بالنسيج السوري؟ تسعى الديمقراطية، والمقصود هنا المفهوم الأكثر حداثة للديمقراطية ببعديها الليبرالي والديمقراطي إلى التخفيف من الاستقطاب بين أطرف صناعة القرار، والذي يكون أكثر قوة على مستوى البنى التقليدية من خلال الاستعاضة عن الإيديولوجيا بالموقف الإيديولوجي، لأن الديمقراطية الحديثة هي نظام تخريبي إذا ما ساده الاستقطاب الإيديولوجي، ذلك الذي يسعى للحد من المشاركة الواسعة وفرض قرار الأغلبية على الأقلية، أي الخروج من الغاية التي جاء على أساسها النظام النسبي،  وإن التخفيف من ذلك الاستقطاب يأتي من خلال السعي لإنتاج أغلبية في المجتمع السياسي (أحزاب سياسية) لا تتطابق مع الأغلبية في المجتمع الأهلي (البنى التقليدية: طائفة، ديانة، عشيرة، قومية، عرق…)، ولكن مرة أخرى قد نقع في إشكالية التمثيل، حيث مصالح المجتمع تحددها انشقاقات اجتماعية تحدد التنوع فيه، وعلى أساس تلك الانشقاقات يتم تشكل الأحزاب السياسية ليشكل كل حزب سياسي مصالح فئة معينة تحددت من خلال تلك الانشقاقات.

يرى البعض أن أسبقية الدستور على الانتخابات بمعنى أن يكون هناك مبادئ دستورية حسب ما يسميها البعض، أو ما فوق دستورية حسب ما يرغب آخرون بمنحها أهمية من نوع السوبر، أو مبادئ أساسية كما يرغب طرف ثالث، تضمن الحريات والتوازن الأساسي والعام بين فئات المجتمع المختلفة هي مخرج جيد لبناء قيم عامة ومسبقة يتم التنافس الانتخابي تحت مظلتها، وبالتالي لا يمكن الخروج عنها، مما يحمي الأقلية من تعسف قرارات الأكثرية. طبعا هذا إن تم احترامها، فهذه القيم على سبيل المثال موجودة في الدستور العراقي، ولكن لم تستطع أن تجعل من النظام السياسي العراقي نظاماً أقل فساداً أو أكثر ديمقراطية، ولم تجعل من الانتخابات سوى بوابة لهدر المال العام حيث زادت حصيلة كلفة الانتخابات منذ الاحتلال الأميركي لليوم عن ألف مليار دولار.

إن الحل في سوريا حل سياسي بالمقام الأول، ولا تتناول عبارة ”حل سياسي“ تلك الصورة الباهتة التي يتم ترويجها على أساس الحل القائم على التفاوض بين أعلى وأسفل، بين النظام والقاعدة لإنتاج النظام السياسي الجديد، لاستحالة قدرة النظام السوري على ذلك، ولكن المقصود بالحل السياسي هو أن الديمقراطية لا يمكن ترسيخها من خلال انتظار تغير الثقافة في المجتمع، وما يؤديه هذا التغيير لتشكل بنى اجتماعية وثقافية واقتصادية جديدة من الممكن لها أن تفضي إلى الديمقراطية، ولكن من خلال تبني ثقافة ديمقراطية في المجتمع السياسي تتأتى من قوانين خاصة بالدرجة الأولى بالانتخابات والأحزاب تستطيع أن تبني مجتمعا سياسيا لا تتطابق أكثريته مع المجتمع الأهلي، ومن ثم وعبر العملية الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تقودها الدولة انطلاقا من ذلك النظام السياسي، وتنفذها في المجتمع يتم إحلال البنى الحديثة والمصالح القائمة على أسس تنموية وثقافية واجتماعية محل البنى التقليدية والمصالح القائمة على أسس إيديولوجية وعصبوية.

إن ما يثير الخوف حول مستقبل سوريا، ليس النظام السوري، فإنه حاضر قاتم لكنه زائل، الخوف في مستقبل سوريا يتشكل من خلال عدم وجود فاعلين سياسيين أظهروا نية حقيقة ليكونوا حوامل للانتقال الديمقراطي، نعم هناك بديل لنظام الأسد دائما وأبداً، ولكن هل هذا البديل ديمقراطي؟