بداية النهاية "الديبلوماسية" لحزب الله؟

2020.05.03 | 00:15 دمشق

50330766_303.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليست المشكلة أن "حزب الله" حزب ديني. فخلال العقود الأربعة الماضية، حصّل الإسلام السياسي - بشقيه السنّي والشيعي - مشروعية انتخابية وشعبية تخوّله الحق في السلطة أو الشراكة فيها. وهذا الحق متأتٍ من احتكامنا إلى ديموقراطية التمثيل، ومن اعترافنا بخيارات الناخبين وميول السكان. وهذا، بغض النظر عن الشراسة الإلغائية المتبادلة بين الأنظمة العربية وتيارات الإسلام السياسي.

مشكلة "حزب الله" أسوأ من ذلك. إنه تنظيم مسلح عنيف، متعصّب، ومذهبي. وخلال أربعين عاماً، أثبت أنه فصيل عسكري ميليشياوي و"جهاز" أمني مخابراتي سري، يدين بالولاء المطلق للنظام الإيراني، وينفذ ما لا يجوز لـ"الدولة الإيرانية" أن تفعله، تحوطاً لمحاسبتها، أو تهرباً من تحمل تبعات تلك الأفعال.

مشكلته أيضاً أنه ليس حزباً محلياً. فنطاق نشاطه يمتد حول العالم. بل ومشكلته أن ما يقترفه حول العالم، تقع تبعاته وارتداداته على البلد الصغير الذي "ينتمي" إليه، لبنان، أكثر مما تقع على إيران.

والحال، أن حزب الله لا شغل له سوى زرع وحصد وتخزين العداوات وحسب. من الجوار السوري والعراقي إلى كل الدول العربية، حكومات وشعوباً. أما سمعته حول العالم فهي ملطخة بـ"الإرهاب". وإذا استثنينا عصابة الأسد والنظام الإيراني والعصبة الحاكمة في فنزويلا، فليس لحزب الله أي اعتبار إيجابي. حتى روسيا التي احتاجته في الميدان السوري، تبدي حذرها الشديد منه.

مع ذلك، أضاء القرار الأخير الذي اتخذته ألمانيا بحظر حزب الله بالكامل ومنع نشاطاته (الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلامية أو السياسية)، واعتباره منظمة إرهابية، على ظاهرة وجوده المديد أصلاً وانتشاره العلني وحريته في الحضور في أجزاء واسعة من العالم، حيث تنتشر جاليات شيعية، وخصوصاً حضوره في القارة الأوروبية. فالمفاجئ ليس القرار الألماني الذي كان مرتقباً في الأشهر الأخيرة، بل تأخره حتى اليوم.

وهذا يدلنا على أن حزب الله ككيان سياسي معترف به "ديبلوماسياً" في دول من المفترض أنها لا تتقبل وجود "تنظيمات إرهابية" ولا تعترف بها ولا تسمح لها بأي نشاط، مهما كان نوعه. فكيف استطاع هذا الحزب أن ينال اعترافاً وقبولاً طوال عقود؟

للإجابة على السؤال، نعود إلى مطلع الثمانينات، حين ترافق تأسيس هذا الحزب مع تفجيرات انتحارية ضخمة، مدشناً نمطاً جديداً من الإرهاب، عدا تطويره أساليب "الإرهاب الثوري" الذي عرفته الستينات والسبعينات، من خطف الرهائن إلى خطف الطائرات، مروراً بأعمال الاغتيال، وصولاً إلى التشبيك مع عالم الجريمة المنظمة (عصابات التهريب، المافيا، تبييض الأموال، تزوير العملات، تجارة السلاح والممنوعات..). لكن بموازاة ذلك، وبحثاً عن مشروعية سياسية وأيديولوجية، وبدعم تام من النظام الأسدي والخميني، استطاع حزب الله تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ليتولاها هو حصراً، وفق اعتبارات وحسابات ومصالح النظامين وسياستهما الإقليمية والدولية. فكانت "المقاومة" هي تلك المشروعية لسلاحه، وهي ضمان ربط النزاع السوري – الإيراني مع إسرائيل وأميركا (والغرب)، ورهن لبنان تالياً في مدار هذين النظامين. كما أن تلك "المقاومة" كانت المشروعية الأيديولوجية لتعبئة الشيعة اللبنانيين تحت رايته، وبالتالي "تمثيلهم" السياسي بما يخوله أخيراً اختراق المنظومة السياسية للبنان ودخوله إلى فضاء السلطة وآليات إنتاجها، وصولاً إلى فرض رؤيته على وجهة لبنان وسياساته الداخلية والخارجية.

الصدام العنيف والدموي الذي خاضه حزب الله ضد الغرب وأميركا: تفجير سفارات، خطف رعايا، قتل جنود، خطف طائرات، تفجيرات في أماكن سياحية، اغتيالات.. إلخ، كان يمارسه حزب الله (ومجموعات أخرى بمسميات مختلفة، تابعة له) ليس على الطريقة العدمية لـ"تنظيم القاعدة" أو "داعش". فالعنف هنا كان امتداداً للسياسة أو بالأحرى للابتزاز السياسي والمقايضات الأمنية. وكان مثالها الأول، ما عرف بفضيحة "إيران غيت" (يمكن قراءة تفاصيلها بهذا الرابط). اقتناع الغرب بدفع "ثمن زهيد" بين الحين والآخر، كفاً لشر إيران ومنظماتها (حزب الله) أفضل من خوض مواجهة مكلفة ولا نهاية لها، جعل الحزب يستأنس لهذا الضرب من الديبلوماسية. وهذا ما جعله مع الوقت "عقلانياً" أو اقتصادياً في عنفه. بل إن الغرب (وبعض العرب وكثر من اللبنانيين) كان يميل إلى نظرية مفادها أن السلوك الديبلوماسي و"الحوار" قد يدجن الحزب ويحوله إلى كيان سياسي "طبيعي"، مندمج في حياة سياسية لبنانية تتسم بالتنوع والتعددية.

المساكنة القسرية بين الغرب وحزب الله، ترتبط أيضاً بحرص الغرب على مصالحه في العالم العربي، خصوصاً في دول الخليج وفي المشرق العربي، كما أن طموحه في "ترويض" إيران والوصول معها إلى تفاهمات استراتيجية تضمن الاستقرار وفق تسويات محلية، جعله بالغ الليونة والديبلوماسية مع إيران ومع ذراعها الأهم: حزب الله. إضافة إلى أن محاولة عزل الحزب ومعاداته قد تجعله يلجأ إلى العنف أكثر، وإلى حد افتعال حرب أهلية في لبنان.

هذا التخوف بالضبط هو ما استثمر فيه حزب الله. التلويح باللجوء إلى السلاح.

في العام 1996، وعقب عملية "عناقيد الغضب" الإسرائيلية، كان "تفاهم نيسان" بين حزب الله وإسرائيل، الذي يقوم على مبدأ مشروعية مقاومة الاحتلال واستهداف الوجود العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان، انطلاقاً من حق الدول والشعوب بتحرير أرضها من أي احتلال.. مقابل امتناع الطرفين عن استهداف المدنيين. الأطراف التي عملت على صوغ هذا التفاهم (برعاية الأمم المتحدة) هي أميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والسعودية ومصر وسوريا وإيران، وبجهود خاصة، تربط كل هذه الأطراف وتنسق فيما بينها، قام بها رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك رفيق الحريري.

دشن هذا الاتفاق، اعترافاً دولياً نادراً بحزب الله، ومنحه مشروعية سياسية كبيرة. فالتقيد بعدم استهداف المدنيين، ينزع عنه تهمة "الإرهاب" بقدر ما يمنحه شرف "مقاومة الاحتلال".

بقدر ما أكسب هذا التفاهم حزب الله، الذي لم يعد مجرد تنظيم شبه سري وصار ممثلاً لكتلة وازنة من السكان وجزءاً من نسيج المجتمع اللبناني وفسيفسائه السياسية، بقدر ما أزعجه تكبيله بشروط هذا التفاهم والغاية منه. أي حشره فقط بـ"المقاومة" إلى حين التحرير. وهو كان محقاً من توجسه هذا. فالغاية اللبنانية والعربية والدولية هي طموح مستقبلي يقوم على المعادلة التالية: إنهاء الاحتلال ومسبباته ومبرراته، مقابل "تطبيع" حزب الله وتسليم سلاحه وحل ميليشياته فور اكتمال التحرير. بمعنى آخر، لبننته.

كان الموعد في العام 2000. انسحبت إسرائيل، فوقع الاستحقاق المنتظر على حزب الله. انتهت مشروعية "المقاومة" (السلاح). هذا ما جعل النظام السوري والإيراني وقادة حزب الله يصفون الانسحاب بأنه "مؤامرة"!

رد فعل "منظومة الممانعة" رفض المعادلة بالكامل. اختلقت "مزارع شبعا" لاستمرار ربط النزاع مع إسرائيل وإنكاراً للحدود الوطنية ووصلاً بالجولان وبغزة وبالقدس، ثم وصلاً بـ"تحرير العراق"، ومن بعدها وحدة الجبهات من إيران إلى "أخونا" هوغو تشافيز في فنزويلا، مروراً بالبحرين واليمن وشرق السعودية وقناة السويس.. إلخ. وفي النهاية، بات الحزب جزءاً من درع الحماية لمشروع إيران النووي، ثم أصبح ميليشيا الدفاع عن نظام بشار الأسد.

قبل ذلك طبعاً، خطّ الحزب مساراً لبنانياً، رسمه بالعنف والدم ابتداء من خريف عام 2004 أدى عبر محطات كثيرة، أهمها اغتيال رفيق الحريري وحرب 2006 وغزوة أيار 2008، إلى استواء الحزب حاكماً للبنان أو خاطفاً له، وشريكاً في احتلال سوريا..

ما يحدث اليوم، أن التعايش مع حزب الله ما عاد هيناً على الغرب تحديداً. فالعالم العربي يعادي الحزب علناً منذ العام 2006، وازداد العداء منذ تدخله في سوريا واليمن والبحرين وغزة. أميركا، بعد أوباما، في شبه حرب سرية مع إيران والحزب. "الديبلوماسية" الأوروبية لم تؤت ثمارها المرجوة مع هذا الحزب.. لا في لبنان ولا في سوريا ولا في قلب العواصم الأوروبية نفسها.

ألمانيا بكل تحفظاتها وتحسباتها ووسطيتها، لم تعد قادرة على تحمّل هذا الحزب. إنها إشارة بالغة على بداية النهاية لأي اعتراف سياسي أو ديبلوماسي بحزب الله، وإرجاعه إلى الخانة السوداء: تنظيم إرهابي يجب مكافحته.