بدايات السياسة وجذور التشتت في سوريا.. شهادة طالب جامعي

2020.04.27 | 00:01 دمشق

alhyat_alhzbyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد قراءة كتاب "يقظة العرب" لجورج أنطونيوس لا يمكن لقارئه أن يبقى على ذات النظرة من الحركة القومية العربية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فهو يبعث فيك مشاعرَ قوميةً لم تكن تحسها من قبل، من صفحته الأولى التي اقتبس فيها بيتاً لإبراهيم اليازجي:

"تنبهوا واستفيقوا أيها العرب * فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب"

أتحدث عن تجربة تعود لسنوات، وأستذكر ذلك الشعور القومي عندما قرأت الكتاب من ورق أصفر عتيق، وهو الكتاب الوحيد الذي نجا من مكتبة جدي بعد أن قررت الجدة قذف المكتبة إلى الشارع.

هذا كلام الوجدان، أما العلم والبحث فهو مستوى آخر؛ إذ نكتشف أنَّ أعداد الأحزاب والجمعيات العلنية والسرية القومية التي أطنب أنطونيوس في ذكرها لم تكن على درجة عالية من الدقة. فقد أوضح سي. إرنست في دراسته أنه قبل أكتوبر 1914 لم يشتهر سوى 126 شخصاً باعتبارهم "دعاة مناصرين للقومية العربية في العلن، أو أعضاء في جمعيات قومية عربية" فيما حدد "اليعازر توبر 180 من الناشطين القوميين في تلك المرحلة، وهو عدد صغير جداً، لا يشير إلى انتشار واسع النطاق للمشاعر القومية بين السكان العرب في الإمبراطورية العثمانية". (القومية العربية في القرن العشرين، عضيد دويشة، ص: 29)

ويدعي أنطونيوس أن الجمعية السرية التي أسسها اليازجي مع أربعة مسيحيين آخرين في بيروت عام 1875 أُسِّست لتحرير الأراضي العربية من سلطة الأستانة "والتي يضفي عليها أنطونيوس أهمية كبرى لأثرها في الحركة الوطنية العربية" فيما تصدى له المؤرخ زين نور الدين زين بالقول إنها سعت بالأساس إلى تحرير لبنان وسوريا، وليس البلدان العربية الأخرى. (زين، نشوء القومية العربية، ص: 55-80). رغم ذلك يكاد يكون أثر الجمعية  ضئيلاً ففي تلك المرحلة التي كان الناس فيها يتوجسون من السياسة وكل ما يقترب منها، "فبقيت السياسة مادة مهربة، لا بد للعامل في ميدانها من التستر بسواد الليل" كما يقول المؤرخ السوري محمد فرزات، في كتابه: "الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها 1908-1955".

صورة الكتاب.jpg

محمد حرب فرزات (ولد عام 1933)

منذ أن كان ابن العاشرة ربيعاً أُتيح لمحمد حرب فرزات رؤية الكثير من رجال السياسة والدولة السورية، ابتداءً من الرئيس شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وسعد الله الجابري وفارس الخوري، وليس انتهاءً بزيارات رجال الحركة الوطنية في سوريا ولبنان. وقد تركت هذه الأحداث في نفسه أعمق الأثر، وقرّبته في عمر مبكر من هموم الكبار: كالسياسة والاهتمام بقراءة الصحف ومتابعة الحياة العامة عن قرب، وفي سنوات لاحقة بدأ بحضور جلسات مجلس النواب في شرفة الصحافة، ويتابع مداولات النواب ويرمق تحركاتهم، ويشاهد معارك المجلس على القضايا الخلافية.

التحق فرزات الشاب في قسم التاريخ بجامعة دمشق (1951) والتي كانت تشكل تحدياً معرفياً لأي طالب يدخل أبوابها، كيف لا، وكادرها الأكاديمي المتميّز يقوده قسطنطين زريق رئيساً للجامعة؟ إضافة إلى استضافة مدرجها الكبير محاضرات رموز الفكر العربي ومؤرخين غربيين شهرياً، فزارها طه حسين ومالك بن نبي وفؤاد صروف وعثمان الكعّاك وأندريه بارو، مكتشف آثار حضارة "ماري" على الفرات، وكلود شيفر، مكتشف حضارة "أقرت أُجاريت". فتضافرت هذه العوامل في تكوين الطلبة معرفياً وفتح نوافذ التفكير والنقد والتجديد أمامهم.

وكان من شروط التخرج في قسم التاريخ إعداد بحث جامعي محكّم، وفي لفتة ذكية، أراد فرزات الطالب أن يكون بحثه متّسقاً مع شواغله الفكرية والسياسية وهو ابن النهضة العربية وشاهد على تاريخ سوريا السياسي، فبدأ دراسة "الأحزاب السياسية السورية من الفترة الممتدة 1908-1949" بعد موافقة أستاذه المؤرخ نور الدين الحاطوم. وانطلق يجمع المعلومات من أوراق الجرائد وأفواه الصحفيين والسياسيين آنذاك، مثل فهمي المحايري صاحب جريدة الحضارة، وجورج فارس، والمؤرخ محمد عزة دروزة.

وفي مرحلة لاحقة، أضاف فرزات فصلاً آخر يعالج فترة 1949-1955 وصدر البحث - الكتاب عن دار الرواد عام 1955، ليصبح مرجعاً مهماً لكل باحث منشغل بتاريخ سوريا الحديث.

ولأهمية الكتاب الكبيرة، فقد أعاد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نشر الكتاب عام 2019م ولعل من دواعي التأمّل أن يكون بحثُ طالبٍ جامعيٍ بهذه الجودة والأهمية..

الحياة الحزبية في الطور العثماني

يبدأ فرزات عرض الحياة الحزبية في سوريا من إعلان الدستور الثاني "المشروطية" في 23 تموز/يوليو 1908م، عقب انقلاب جمعية الاتحاد والترقي الذي شارك فيه بعض الضباط العرب أملاً منهم فيما سيوفره العهد الجديد للعرب من حرية تحفظ كيانهم القومي؛ وتفسح لهم مجالاً لمشاركة أوسع في أعمال الدولة.

وبدأت المؤسسات السياسية العربية تتوالى: افتتحت جمعية الإخاء العربي العثماني أولاً، ثم المنتدى الأدبي، انتقالاً إلى أهم تنظيم عربي في الحقبة العثمانية وهو "حزب اللامركزية الإدارية العثماني" الذي أُسس في القاهرة أواخر 1912 "لإقناع الحكومة والشعب بفوائد اللامركزية، وضرورة اتخاذها أساسًا للإدارة في الدولة العثمانية في مختلف أقطارها".

وكما اعتدنا في تاريخنا العربي، فقد انقلب حلفاء لحظات التحوّل وخدع بهم المتصدّرون من العرب، فسرعان ما أغلقت الأحزاب والتجمعات، حتى إن حزب اللامركزية لم يتحصّل على رخصةٍ رسميةٍ أصلاً، ثم انخدعوا مرة أخرى في مؤتمر باريس العربي عام 1913، حيث اضطرت حكومة الاتحاد والترقي إلى إرسال سكرتيرها، مدحت شكري باشا، إلى باريس لمفاوضة رجال المؤتمر، فاتفقوا على عدة أمور هي: "إدارة الأوقاف محلياً، تدريس العربية بجانب التركية، إلمام الموظفين الأتراك بالعربية، نوع من الاستقلال المالي، أن تكون الخدمة العسكرية في منطقة المجنَّد أثناء السلم". فلم تمض الأيام حتى تكشف لهم تملص الحكومة من الاتفاق.

في النهاية اضطر العرب بسبب الخذلان والخداع المتواصل إلى المطالبة باستقلالهم القومي الكامل

ورغم محاولة استغلال الفرنسيين الفرصة فإن ممثلي المؤتمر عبروا عن انزعاجهم الشديد بالقول: "إننا نحترم الفرنسيين ولكننا لا نرضى أن يكونوا رؤساء علينا، بل نرغب في معاضدتهم لإصلاح أحوالنا بشرط أن نبقى عثمانيين". وهو هدف المؤتمر بالأساس كما حدده عبد الحميد الزهراوي لجريدة le temps الباريسية. وفي النهاية اضطر العرب بسبب الخذلان والخداع المتواصل إلى المطالبة باستقلالهم القومي الكامل.

من الاستقلال الأول إلى الاستقلال التام

ينتقل الباحث لعرض الأحزاب التي تشكلت في العهد الفيصلي (1918-1920) والمرحلة اللاحقة منها حتى عام 1955م، فيذكر مؤسسيها ومبادئها وبعض الصراعات الدائرة بين الأحزاب، كحزب الاستقلال العربي، حزب التقدم، اللجنة الوطنية العليا وصولاً إلى البعث والشيوعيين والإخوان المسلمين..

وأكثر ما يميز هذه المرحلة هو تعدد الأحزاب من دون حاجة أو معنى، وانتماء المرء في بعض الأحيان إلى أكثر من حزب واحد في آن معًا، وهذه ظاهرة برزت في العهد الفيصلي تحديداً، رغم أنَّ البلاد كانت تمر في "ظرف خطير لا تتحمل فيه مصلحة البلاد الواضحة، لمواجهة الأخطار، الجدلَ والتنافسَ أو الخصوماتِ الشخصيةَ. وأكثر من ذلك هو ضعف الانضباط الحزبي" كما ذكرنا أعلاه.

هكذا استمرت الأحزاب بالتشكل والانحلال والتفتت، فمنها المتخيّل لقومية سورية اجتماعية، ومنها المنادي بالقومية العربية، والباحث عن الرابطة الأممية الإسلامية، والحالم بالأممية العالمية، وكانت النتيجة الأخطر لهذا التشتت المفاهيمي والاختلاف في المرجعية الفكرية هي تشويه مفاهيم الدولة والأمة والمواطنة، ما أثّر سلباً على عملية بناء الدولة-الأمة بعد مرحلة الاستقلال من الاحتلال الفرنسي. (تطور المجتمع السوري، نشوان الأتاسي، ص:  202)

إلّا أنَّ حالة التشرذم في وقت الحاجة إلى الوحدة ليست هي المفارقة الأغرب في تاريخ الأحزاب السورية كما يقدّمه محمد حرب فرزات، فبعد أن فشل أكثر هذه الأحزاب في تقديم البرامج السياسية الفعالة اقتصادياً واجتماعياً وتبرير ذلك بخوضها معركة المطالبة بالاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، كانَ المنتظر أن يكون لها دور بارز بعد تحقيقه، إلّا أنَّ فرزات يرفع قلم الباحث، ليكتب بقلم الشاهد على تلك المرحلة: "لقد انتهى دور الأحزاب والكتل السياسية التي تشكّلت في مرحلة الاحتلال والانتداب مع الجلاء، وإعلان جمهورية الاستقلال عام 1946"..