بالسوري الفصيح

2020.06.14 | 00:00 دمشق

mzahrat-alswyda-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

عادت التظاهرات إلى محافظتي درعا والسويداء خلال الأيام القليلة الماضية، وعادت معها نمنمة الحياة وآمالها إلى السوريين عامة، وأعادت إليهم ما كاد يغطيه الدم المهروق ودمار المدن وطرق اللجوء، لقد أعادت إليهم سيرة ثورتهم الأولى ورائحتها، وأعادت إليهم أملاً أوشك ينطفئ: بأن لدى السوريين الكثير ليقولوه، وأن الأيام القادمة لابد أن تكون لهم.

بعيداً عن تفاصيل هذه التظاهرات، وبعيداً عن اتساعها ومدى استمرارها، وبعيداً عما يتمخض عنها، فإنها في حالاتها كلها، وفي احتمالاتها كلها، قد استطاعت أن توصل إلى السوريين رسائلها بالغة الأهمية.

وهي ثلاث رسائل مكتوبة بالسوري الفصيح، ومنطوقة به، من درعا والسويداء إلى السوريين جميعاً دون تصنيفات ودون تخطيطات ودون غمغمة:

الرسالة الأولى موجهة باستقامة، وبالإصبع الوسطى، إلى رأس النظام وعصابته:

لقد انهارت مملكة الصمت التي أنشأها والدك، والتي ابتلعت سوريا على مدى عقود. انهارت منذ أول صرخة أطلقها السوريون في آذار 2011، والتي لاتزال مستمرة، ولن تتوقف حتى تصل إلى ما تريد.

وهي الصرخة التي تستطيع - أنت وأجهزتك الأمنية ومرتزقتك وحلفاؤك- أن تضغطها في أصواتنا وتضعفها، وأن تكتم تدفقها قليلاً، لكنك لن تستطيع أبداً أن تخرسها.

فلا تراهن كثيراً على أدواتك التي انكشفت؛ إذ لا مقولة الإرهاب ستجدي، ولا مقولة المؤامرة، ولا شق صف السوريين بين هذه الطائفة وتلك، ولا بين مؤيد ومعارض؛ فلم يعد في صفك إلا من ترعبهم أو تشتري ضمائرهم بفتات مائدتك، وبالتالي: ما من سوري يحلم بسوريا وطناً ثرياً بمواطنيه وقوياً بهم يمكنه أن يقف معك.

وعبثاً تحاول إعادة السوريين إلى قمقم الطاعة؛ فالسلطة التي تملكها قد نُخرت نخراً لم يوفر حتى عظامها، إن سلطتك منخورة بالفساد وبالطائفية وبالمجرمين، ومنخورة بوصايات الدول التي تتنافس وتتكالب على ضحيتك، وهي منخورة بمئات المجازر والجرائم والفظائع التي ارتكبتها أنت وعصابتك، وهي منخورة بما هو ألعن وأخطر؛ أي إنها منخورة بعقلك القاصر الذي لا يريد أن يرى ولا أن يتعلم، هذه سلطتك المنخورة التي لا بد أن تبتلعك أولاً، قبل أن تأكل نفسها بنفسها.

هل سمعت يوماً عن قائد قد انتصر في معركة، وهو يشك دائما أن جنوده خونة يتربصون به ويكرهونه؛ إذ لو كنت واثقاً ممن يؤيدونك، لما هددتهم بلقمة خبزهم إن غابوا، وإن توانوا، عن مسيرات تأييدك. ولما أمرت أجهزتك أن تعاقب من لا يحضر ومن يتمارض ومن يتأخر، ولما قررت ألّا عذر لأحد.

إذاً، ما أشد فاجعة مصيرك، وفاجعتك بنفسك، ما دامت سنوات المحنة السورية العشر لم تعلمك حرفاً واحداً، ولم تعلمك: أن الشعوب كالقدر تمهل ولا تهمل، وأن القادم سيطويك كما طوى طغاة كثيرين من قبلك.

أما الرسالة الثانية فهي موجهة إلى المؤيدين كلهم، أينما وجدوا.

لقد اخترتم الرئيس حين كان الخيار بين الوطن والرئيس! واخترتم الذل حين كان الخيار بين الكرامة والذل، واخترتم العبودية حين كان الخيار بين المواطنة والعبودية... فما بالكم الآن لا تنهضون من صمتكم إلى وطنكم وكرامتكم وحريتكم! ولماذا لا تغادرون متاريس خوفكم؟ فنحن طلاب وطن وحرية وكرامة وخبز، ولسنا طوائف حاقدة نخاف بعضنا بعضاً، ولسنا قتلة نخاف قصاصاً وثأراً، ولسنا عبيداً لكي نلبس رغماً عنا ما يريدون لنا أن نلبس.

وما نحن غير شعب قهره الطغيان طويلاً؛ فخرج صارخاً قهره، وحالماً بوطن يعيش فيه حراً كريماً غير جائع، ورافضاً من لا يراه إلا عبيداً له، من أجل هذا أشعل نار تفرقتنا، وصنفنا ألف تصنيف وتصنيف؛ لكي نبقى عبيداً في مملكته، واستقدم المرتزقة من شتى أصقاع الأرض؛ ليقتلنا، ويقتل سوريتنا، ويقتل حلمنا.

واليوم، نحن جميعاً نشهد مخاض سوريا الممتد والمتجدد الذي يستدعي قول: أن العار هو في ألا نقف بجانبها، وألا نساعدها في محنتها ونسندها، وألا ننقذها من احتمال نحرها. فلقد صمتنا طويلاً، وطويلاً أدرنا ظهورنا لأنينها وخرابها، واليوم لم يبق عذر لأحد منا؛ فقد اتضحت الرواية من ألفها إلى يائها. ولم يبق أحد يحاول طمس الحقيقة سوى من يرون في دوام ذلنا وضعفنا مصلحتهم.

وعندما نتلاقى بعد كل هذا الخراب انحيازاً لكرامتنا وحريتنا وسوريتنا وانتصاراً لها؛ سندرك أي كارثة ألحقناها بأنفسنا وبوطننا، وسنعرف حينها كيف نعيد إلى سوريا عافيتها، ما دام لم يعد هناك ما يمكن أن ننتظره من أي أحد؛ لأن وحدنا ووجعنا وقهرنا هو ما تبقى كي نعود شعباً مثل كل شعوب الأرض.

والرسالة الثالثة هي الرسالة الموجهة إلى المعارضين الذين يتوهمون أنهم أصحاب قول وملاك ثورة.

فالثورة ثورة؛ لأنها أولاً ليست ملك أحد، ولا يمكن أن تكون، حالها حال الوطن، فهما لنا جميعاً، فلماذا إذن تحاولوا سرقتهما.

عشر سنوات من زمن الثورة، وأربعون قبلها، ولم نتعلم: أن الوطن لا يقوم على تصنيف مواطنيه. ولم نتعلم أيضاً: أن الظلم يجب ألّا نسكت عنه؛ فإن سكتّ عنه لأنه ليس واقعاً عليّ، سيصلني حتماً في يوم ما، ولأن الوطن مهما عظم شأنه لا يمكن أن يكون وطناً، وفي نفس الوقت يبيح ظلم أي فرد فيه.

وليس لأحد الحق في أن يسلب أحد آخر حقه، مهما يكن رأيه ورايته، وليس لأحد الحق في فرض رأيه على آخر، وليس لأحد أن ينصب نفسه وصياً على أحد إلا بما يجيزه القانون.

عشر سنوات ونحن ننشج، عشر سنوات ونحن ندفع من دمنا وتعبنا ومستقبل أولادنا؛ لأن بعضنا قد توهم أنه الوصي على الثورة، ولأن بعضنا الآخر قد توهم أنه الوصي على السوريين...إلخ.

ألا يكفينا ماحل بنا لنعلم ونتعلم؟!

ما بين الأرض وحقائقها والفيس بوك وأخواته وأوهامهم مسافة لا تردمها التمنيات. ومن يواجه الموت والسجن والجوع هو من يحدد كيف يواجه، وهو من يرتب أولوياته.

لم تعد تفيدنا تصنيفاتكم، ولا تهمنا، ما بين داخل وخارج، وما بين طائفة وأخرى، وما بين رجل وامرأة، وما بين قومية وأخرى، وما بين جديد على الثورة وآخر مخضرم... كل معارككم على شاشات وهمكم الزرقاء لم تعد تعنينا.

ما يعنينا هو أمر واحد الآن، هو: أن نرتب أولوياتنا جميعاً، وأن يكون أول أولوياتنا أن تعود سوريا إلينا، وأن نحررها من عصابة اختطفتها طوال نصف قرن، وبعدها سيكون لنا أولويات أخرى، وحماقات أخرى، ودروس أخرى.

فالأوطان لا تنتصر بالأوهام، إنها تنتصر بحقائق الحياة.