باب الحارة والفردانية السورية

2021.11.12 | 06:22 دمشق

arabtravel.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعرض مسلسل باب الحارة الشهير لانتقادات كثيرة، كان من أبرزها قيامه –كما يرى ذلك منتقدوه- بتقديم نسخة مشوهة عن التاريخ الاجتماعي لمدينة دمشق في فترة العشرينيات من القرن المنصرم، وخصوصا تركيزه على تقليدية المجتمع الدمشقي، وانغلاقه ضمن أطر العلاقات الأبوية والتقليدية، ولا سيما في تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة فيه.

اكتفى النقد المشار إليه أعلاه بالدفاع عن صورة ربما كانت متخيلة لدمشق في أذهان كثير من السوريين، صورة المدينة التي تروم الانفتاح على الثقافة الغربية والقيم المصاحبة لها. وازداد هذا النقد حدة بعد سيطرة قوى إسلامية راديكالية على الثورة، وأخص هنا النقد الصادر من جمهور الثورة الذي أراد إثبات أن المجتمع السوري ليس مجتمعا منغلقا كما حاول المسلسل تصويره، وهي رؤية كان الدافع وراءها ما حاول النظام وموالوه رسمه في الإعلام والتربية والتعليم عن جمهور الثورة بأنه مجتمع تقليدي تكبله القيم الإسلامية في إسار الماضي وعلاقاته.

لا يعنينا هنا إن كانت الصورة التي رسمها المسلسل لدمشق، بوصفها تكثيفا لجزء واسع من المجتمع السوري، صحيحة أو مشوهة، فما يهمنا هو أن النقد الذي طال المسلسل لم يتوجه إلى الفردانية الشديدة التي تتسم بها البيئة التي يصورها، وهي فردانية أظن أنها تعبير عن الذات الجمعية السورية. يعود هذا الإحجام عن نقد الفردانية فيه إلى أن النسق الثقافي قادر على التخفي والمراوغة، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان الكشف عنه ورؤيته وتشخيصه. ولهذا السبب لم تلفت الفردانية في المسلسل نظر النقاد، لأنها عدت بحسب النسق معطى طبيعيا.

في المسلسل، تنغلق الحارة على نفسها من خلال باب يعزلها عن العالم الخارجي، وعن الحارات الأخرى التي ينظر إليها على أنها تمثل الآخر المختلف الذي لا يجمعنا به شيء، إذ يمنع الآخرون من القدوم إلى الحارة، ومن العمل والتملك فيها، في الوقت الذي يجري فيه تقديم الحارة على أنها كتلة متجانسة من الأشخاص، تقوم بواجبات الدولة كلها: الرعاية الاجتماعية، وتقديم الخدمات والمساعدات للمحتاجين، وفرض الضرائب على المقتدرين لمساعدة الفقراء...إلخ.

الصورة التي يرسمها باب الحارة هي تكثيف شديد لرؤية الجماعات الأهلية السورية لذواتها، ولتصوراتها عن الجماعات الأخرى، سواء أكانت تلك الجماعات عشائر أم طوائف أم مناطق. فالجماعة البشرية التي ينتمي إليها الفرد تمثل الحق المطلق، في حين يجري الحط من شأن الجماعات الأخرى، كما هو الحال في حارة "أبو النار" التي تمثل بالنسبة لحارة "الضبع" وضعية دونية مزدراة، إن على صعيد العلاقات الاجتماعية بين أفرداها، أو على صعيد المستوى المادي الذي يعيش فيه سكان الحارة الذين يضطرون للعمل في الحارات الأخرى.  هذه الفردانية السورية اتضحت في المسلسلات الدرامية، ولا سيما من خلال تلك المسلسلات المغرقة في محليتها، والتي تدافع عن حق الجماعات الأهلية في الانعزال والانغلاق، وحقها في إدارة شؤونها بمعزل عن السياق العام، وعن "الدولة" نفسها بوصفها إطارا جامعا.

تجري دائما نسبة هذه الفردانية للتربية التي تلقتها أجيال من السوريين في ظل الحكم البعثي، ولا سيما في نسخته الأسدية ذات البعد الطائفي الواضح، والتي شجعت السوريين على الأنانية والخوف من الآخر، وكل ذلك من أجل استثمار هذا الخوف في سبيل خنق أي محاولة للعمل الجماعي، أو للانفتاح على الآخر. لنتذكر في هذا الصدد أن النظام التعليمي في ظل الأسدية كان يشجع الطالب على حل المسائل داخل الصف بمعزل عن زملائه في حين أن أبسط مبادئ التربية السليمة تقول خلاف ذلك.

الصورة التي يرسمها باب الحارة هي تكثيف شديد لرؤية الجماعات الأهلية السورية لذواتها، ولتصوراتها عن الجماعات الأخرى

نسبة هذه الفردانية إلى التربية الأسدية صحيحة في جزء منها، ولكن ينبغي ألا يعمي كل هذا الخراب الذي قامت به الأسدية عيوننا عن رؤية حقيقة أهم، وهي أن هذه الفردانية لها جذور بعيدة الغور في الشخصية السورية؛ فلم يكن النظام الأسدي قادرا على الاستثمار في هذه الفردانية لو لم توجد تربة صالحة تتقبل ما زرعته البعثية فيها من غراس ضارة. فالفردانية مترسخة في أشكال الاجتماع السوري كلها، إذ يبدو أن ثمة نزوع نحو الانعزال والابتعاد عن الآخر وعدم الانخراط معه ما أمكن. ولهذا كثيرا ما يقال إن الفرد السوري متميز على المستوى الفردي، ولكنه يعاني إخفاقا حادا على مستوى العمل الجماعي والمؤسساتي، وهو ما يتجلى واضحا في الثورة السورية، في العجز عن بناء مؤسسات متماسكة، وفي الطابع المحلي والمناطقي والعشائري الذي يسم معظم التنظيمات العسكرية.

بناء على ما سبق، يبدو أن التشرذم والنفور من التشكيلات المدنية من خصائص المجتمع السوري. وهذا أمر يعود إلى طبيعة التنوع والتعدد التي يتصف بها هذا المجتمع السوري، والتي تتجلى في سمة الانعزال المكاني التي عبر عنها باب الحارة، والتي نلاحظها في كل البلدات والقرى السورية؛ فلو قارنا، مثلا، عدد القرى في سوريا بعدد القرى في مصر لاتضح لدينا الفارق الكبير بين المجتمعين؛ فعدد القرى في مصر التي تبلغ مئة مليون نسمة يبلغ خمسة آلاف قرية، في حين يتجاوز عدد القرى في منطقة منبج وحدها أكثر من ستمئة قرية. هذا يرينا الفارق بين المجتمع المنقسم والمجتمع المتماسك. هذا إضافة إلى أن القرى السورية في المناطق ذات الصبغة العشائرية تتوزع عشائريا؛ إذ قلما يعثر المرء على قرية مكونة من عشائر مختلفة، فالسائد هو أن تسكن القرية عشيرة واحدة، وفي معظم الأحيان تنتمي إلى فخذ واحد، وهو أمر يعود إلى أن العشائر استقرت في مناطق الرعي، كما أنها ظلت تحتفظ بذاكرتها الجمعية بالصورة المرسومة عن القبائل الأخرى، وهو ما نلاحظه من توجس وريبة بين أبناء القبائل أنفسهم، واحتفاظهم بتصورات موهومة، وصور نمطية عن الآخر القبلي. أما في القرى الفلاحية، فيتخذ التشرذم والانعزال طابع العائلات، ففي كل حارة تسكن عائلة معينة، وتقوم بينها وبين العائلات الأخرى علاقات قائمة على النفور والريبة والشك. يتضح هذا داخل الطائفة الواحدة، فكيف سيكون الأمر حين ينتقل التفكير إلى المعتقد والعوالم الرمزية التي تختلف باختلاف الدين والمذهب؟ ستكون الصورة أكثر قتامة وسوداوية، وهو ما ظهر في الثورة السورية، حين قامت قطعان الشبيحة بالهجوم على قرى مسالمة، وقتل أفراد مدنيين مسالمين، لا لشيء إلا لخلل في التصورات الموجودة في أذهانهم عن الآخر المختلف دينيا ومذهبيا.

لا خيار أمامنا - إن أردنا استعادة سوريا من الاضمحلال - إلا بفتح باب الحارة، والخروج من قوقعة العائلة والعشيرة والمدينة والمنطقة إلى عالم الدولة الجامعة، الدولة التي تحمي مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم الضيقة، بعيدا من "أبو شهاب" الذي فقد في الحالة السورية شهامته وأخلاقه ونخوته، وتحول إلى "عوايني" و"مجرم حرب" فتح باب الحارة أمام الغرباء، واستقدم "الروس" و"الإيرانيين" ليقتلوا أهل الحارة الذين ثاروا في وجه سلطته الجائرة، فاحتل "الفرنساوي" الحارة وطرد أهلها منها.