بائع الأمراء وبائع الدين

2021.11.20 | 03:03 دمشق

1014643514_0_786_1365_1523_1000x541_80_0_0_3f6304b476f62e585bd579c4def63aaa.jpg
+A
حجم الخط
-A

انقسم السوريون حول رحيل المرحوم صباح فخري، وهذا ديدنهم، فتذكّر قسم منهم صوته وطربه وأغانيه وموشحاته وقدوده والمدائح العربية التي قيلت فيه، منها دخوله كتاب الغرب المقدس "سجل غينيس للأرقام القياسية" بأطول فترة غناء متواصلة، وتذكّر قسم ثانٍ ولاءه للنظام وقلادة وسام الجمهورية وتجاهله الثورة السورية ورقص الراقصات من حوله، وتذكّر قسم ثالث محاسنه وخصائله وآذانه وعمله في الأوقاف حتى وجدوا له صورة في ثياب الإحرام البيضاء من كل دنس، ومهما عمِل من عمَلٍ فلم يكن مثل دريد لحام، فليس له  تصريحات مداهنة ونفاق وتحريض على القتل، وربما كان من محامده التي يحسن ذكرها هو أنه صاد أحمد بدر الدين الحسون صيد السمك البني في صيد العصاري فأسقطه من ذروة الشرف بعد أن صعد سريعًا إلى قمة البيت المصمد، وكان عجيبًا بمواهبه في البكاء والتمثيل والمزاحة و"لعبه في الميّة"، حتى إنه يذكّر ببيت من معلقة طرفة بن العبد الشهيرة والتي يقول فيها:

فَإن تبغني فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقِنِـي    وَإِنْ تَلْتَمِسْنِـي فِي الحَوَانِيْتِ تَصْطَدِ

صباح فخري وأحمد الحسون زميلان، ليس في التغريد والنشيد، فلم نسمع الحسون يرتل القرآن ترتيلا، فهما يشتركان في صفة العمل في الأوقاف، مضى أحدهما إلى إطراب الناس، ومضى الثاني إلى إطراب الرئيس بموشحات الفتيا، وبينهما برزخ لا يبغيان، والحقيقة وقد استشهدنا بحوانيت طرفة بن العبد فإنه لم يُسمع عن مفتي البراميل سكرٌ أو فسق سوى التشبيح، وهو أشرُّ من الاثنين، أما صوره التذكارية فليست بالإحرام في الحرم وإنما هي مع إلهام شاهين من غير خِمار، ومع المليحة الروسية في الخمار الأحمر وسواهما من الفنانات، هو يمنحهن بظهوره الميمون معهن في الصور برهانا على مؤاخاة الدين والفنّ وعرض الأزياء وإسباغ التقوى عليهن، وهنَّ بدورهنّ يزكينه للدنيا وزينتها، فقد جمع بين الدين والدنيا جمعًا للضرائر المتعادية في عصمة واحدة. ولم نعد قادرين على معرفة جنس المفتي، هل هو من الكائنات البرمائية مثل السمك البني، أم من جنس الطير مثل الحساسين.

اتسعت صداقاته الدولية فامتدت من آيات إيران إلى ساسة الاتحاد الأوروبي والفاتيكان، مع أنه هدد أوروبا بعمليات انتحارية، لكن الاتحاد الأوروبي غفر له زلته

ووجدت شخصيات رواندية ومزدكية وماسونية تتباهى بصداقة الرجل، ويتباهى بها ويتقرب إليها، وقد أسرع الرجل كثيرًا في الصعود في مدارج الشرف والسؤدد، وأسباب صعوده معروفة، فقد استنسر هذا البغو بعد أن خلت الساحة فصدق فيه قول طرفة:

 يا لَكِ مِن قُبَّرَةٍ بِمَعمَرِ                      خَلا لَكِ الجَوَّ فَبيضي وَاِصفِري

اتسعت صداقاته الدولية فامتدت من آيات إيران إلى ساسة الاتحاد الأوروبي والفاتيكان، مع أنه هدد أوروبا بعمليات انتحارية، لكن الاتحاد الأوروبي غفر له زلته، فهم يعرفون ملّته وعلّته ويعلمون أنَّ فتاويه لن يأخذ بها أحد، ولو قالها غيره لمُنع من السفر إلى جنة أوروبا، ولأُعلن شخصيةً إرهابية مثل أسامة بن لادن ويعلمون أنَّ نفعه أكثر من ضرره، إن كان له ضرر.

حاز الرجل صاحب الابتسامة الدائمة والأسنان الناصعة والعمامة الكبيرة صفات لم يحزها غيره من أسلافه في منصب المفتي، فهو وسيم، كبير العمّة، ذهبي الشعر حلو القسمات، يصلح بطلًا لفيلم من أفلام الستينيات والسبعينات المصرية التي كانت تستلزم حسن البطل وقسامته ووسامته.

كتب كثير من أهل الرأي ينعون منصب المفتي، ويندبون تحويل الأسد السّنة من أمة إلى طائفة، فقد كانت الأوقاف ملكا لأسد - وهي أغنى وزارة سورية على الإطلاق ففيها آلاف العقارات التي تدرُّ مالا كثيرا فهو مال الله سطا عليه الفجّار.

وكان منصبه غرمًا لا غنمًا. كان الخليفة على مدى التاريخ الإسلامي رئيسًا تنفيذيًا لا تشريعيًا، فالقضاء ليس من شأنه، إلا في العصر الراشدي عندما كان الخليفة فقيهًا وإمامًا. استبدل الأسد بمنصب المفتي مجلسًا فقهيًا علميًا، أمّم الرجل الإسلام بمرسومه التشريعي على غرار قانون الإصلاح الزراعي، وليته فعل ذلك بالسياسة كما فعل بالإسلام، كأن يعمل مجلسًا سياسيًا يشرك فيه أحزاب سوريا كلها حتى تفتي في الشأن السياسي.

وقد حرص الذين سبقوا الحسون على وقار المنصب وجلاله، فجاهدوا في الموازنة بين السياسة والدين، فلم يكونوا يمجدون الرئيس سوى في المناسبات الدينية، ويقلّون الظهور الإعلامي، ويقتصدون في محاباة أهل الفن والاستعراض، إلا أحمد "بدر الدجى" حسون الذي كان يسابق الشهب فيغرد كثيرًا مع الفنانين ولا يفوّت فرصة للظهور إلا واغتنمها حتى إنه ظهر في الاتجاه المعاكس فخاب فيه وخسر،  بل إنه اجتهد كثيرًا في تذويب السّنة في الشيعة، وفي لوم أهل السّنة الذين يخفون بزعمه فضائل عاشوراء، بل إنّ له مجاهدات في  الدعوة إلى الدين الإبراهيمي قبل أن تضطلع به الإمارات، إلى أن حضر مجلس عزاء صباح فخري فاجتهد في تفسير سورة التين فكان أن وقع حفرة من حفر النفاق، فجعل السوري المعبّد في سوريا كالأجرب والذي يعاني الأمرين في أحسن تقويم وبقية البشر في أسوأ تقويم، وتبارك الله أحسن الخالقين وأحسن القاهرين.

ارتاب بعض النابهين في أنه يريد ترويج بضائع من زيت الزيتون والتين كما فعل في خطبة له في أول شأنه (مقال حسام جزماتي) عندما حوّل منبر الجمعة إلى منصة إعلان تجاري لكتاب ممثلة مغربية في الخمار الأسود، عنوانه "فلا تنس الله"، فأنجد النبي الممثلة في الرؤيا وهرع إليها وشفاها كما قال في خطبته، لسببين غريبين ومنكرين؛ أولاهما أن الممثلة استنجدت به في الرؤيا وليس بالله ولا بإخوان النبي من الرسل، والثاني أنَّ اسمها على اسم ابنته فاطمة، فلو كان اسمها على اسم ابنة أبي بكر أو عمر أو عثمان لما حظيت بتلك المكرمة النبوية، النبي متعصب لنفسه وأهل بيته حسب الخطبة!

شيخ الأزهر موالٍ للنظام المصري، بل هو أحد أركانه، لكنه رجل حذر، فهو وإن كان عضوًا في الحزب الوطني وأحد أركان الانقلاب على الشرعية الانتخابية في مصر، فإنه يعرف مكانة الأزهر العريقة، حتى إنه تجرأ على معارضة أعتى رئيس مصري معروف، ليس في تدمير بيوت الناس أو بناء السدود على شكل جسور في القاهرة، وإنما في الطلاق الشفوي، والطلاق وإن كان شأنًا من الشؤون الشخصية وليس السياسية، إلا أنه ليس صغيرًا، واعتبرت وقفة شيخ الأزهر بطولة على بعض صفحات التواصل، وكأنه العزّ بن عبد السلام الذي لجأ إلى مصر من فلسطين، احتجاجا على أميرها، فاحتج على سلطانها الصالح أيوب وعلى أمرائها المماليك حتى خضع له السلطان وباعهم في السوق فاشتروا أنفسهم وأودعت الأموال في بيت المال. وللعلماء مواقف مشهودة مع السلاطين صنفت فيها مصنفات كثيرة.

أما الحسون فغرّته نفسه في موقع "رئاسة الدين"، وليس للدين رئيس في الإسلام، وليس بعالم إنما هو ديك حسن الصوت، فكان ينحني كل يوم للرئيس في دمشق، وأولياء الرئيس في القرداحة، ولسهيل النمر، ودجاجات الرئيس، فأدى جميع حركات السيرك حتى فقدت بريقها ولم تعد تضحك.

لن يستطيع الحسون الشادي إصدار بيان يبين فيه آيات الله في التين والزيتون في زمن يعزُّ فيه الخبز، فهو رجل منابر وكاميرات وعروض أزياء وليس رجل صحائف وتأليف وتدوين

هناك قولان في خلع المفتي من المنصب، أولهما؛ إن الأسد خلعه من غير مشقة، فقد صفق كثيرون لخلعه وشمتوا بمفتيهم، فالأسد يعرف القاعدة الشهيرة التي عرفها الحكام من كتاب الأمير لميكافيلي، والتي تقول: إن أي أجنبي قوي يدخل إلى بلد فإن كل المستضعفين من سكانها سيؤيدون هذا الأجنبي بدافع كرههم لحاكمهم السابق، وقد أيّد كثير من السوريين خلعه، وكلاهما أجنبيان؛ الأسد والحسون، فإمّا أنّ الأسد استدرجه لأن ينافس دريد لحام في التهريج وينتحر بلسانه، وإما أن الحسون بالغ في الانبطاح حتى لم يعد له قيام.

لن يستطيع الحسون الشادي إصدار بيان يبين فيه آيات الله في التين والزيتون في زمن يعزُّ فيه الخبز، فهو رجل منابر وكاميرات وعروض أزياء وليس رجل صحائف وتأليف وتدوين، وأفضل ما قيل في التين قول الشاعر:

انْظُرْ إِلَى التِّينِ فِي الْغُصُونِ ضُحًى ... مُمَزَّقَ الْجِلْدِ مَائِلَ الْعُنُقِ

كَأَنَّهُ رَبُّ نِعْمَةٍ سُلِبَتْ ... فَعَــــــــــــــــادَ بَعْدَ الْجَدِيدِ فِي الْخَلَقِ

أَصْغَرُ مَا فِي النُّهُودِ أَكْبَرُهُ ... لَكِنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الطُّرُقِ

 أما الزيتون الذي أراد المفتي المخلوع أكله بنواه فغصّ به، فبه آيات كثيرة؛ سنا ضوؤه ودهنه وصبغه وعوده الذي يتخذ سواكا، فهو من فاكهة الجنّة، وكما نودي على الحسون في الطرق سينادى على الأسد يوما:

لابد من صيدك يومًا فاصبري.