"ايست ميد" قربان العيد الأميركي للأحبة

2022.01.23 | 05:09 دمشق

2020_1_8_18_51_59_563.jpg
+A
حجم الخط
-A

تركت تل أبيب لواشنطن مسألة الإعلان أن مشروع "ايست ميد" لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، عبر قبرص اليونانية وكريت بشراكة اليونان ولد ميتا، وأنه كان مجرد محاولة لمحاصرة تركيا في شرق المتوسط وتضييق الخناق عليها بملفات استخراج ونقل الطاقة في المنطقة.

وصف المشروع الذي وقع في مطلع كانون الثاني عام 2019 في أثينا، بين إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية بالخطوة العدائية المبالغ فيها طالما أن الدول تبحث عن مصالحها، وطالما أنه يأتي بعد 40 يوما على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية التي وقعت في 27 من تشرين الثاني عام 2019 ردا على منصة شرق المتوسط السباعية في القاهرة. لكن أثينا هي من سيتحمل دفع ثمن القربان الأميركي بعدما سقطت في المصيدة الفرنسية التي كانت تحاول فرض نفسها على شرق المتوسط في مواجهة إقليمية مفتوحة مع تركيا، وعادت إدارة بايدن للتدخل قبل أيام وقول الكلمة الأخيرة فيها.

تقول واشنطن إن لا الثلاثية "لا عملية ولا واقعية ولاعقلانية" المشروع هي التي دفعتها للإعلان عن تغيير موقفها حياله. لكن ردود الفعل التركية السريعة حول الموقف الأميركي الجديد تسهل الكشف عن الأسباب الحقيقية التي دعت واشنطن لتوجيه مثل هذه الرسائل الإيجابية نحو أنقرة تحديدا في مثل هذه الآونة:

النبرة الانفتاحية الجديدة للرئيس التركي الذي أبدى استعداده للتعاون والحوار السريع مع دول شرق المتوسط

- هناك أولا التقاط الرئيس التركي أردوغان الرسالة الأميركية وتعامله معها على الفور. من موقف "لم يكن هذا المشروع قابلا للتنفيذ أصلا، لأسباب مادية وتقنية وسياسية". إلى رسائل رد تحية لبايدن، وتذكير واشنطن باستحالة تنفيذ أي مشروع نقل طاقة في شرق المتوسط رغما عن تركيا أو بمعزل عنها، ثم النبرة الانفتاحية الجديدة للرئيس التركي الذي أبدى استعداده للتعاون والحوار السريع مع دول شرق المتوسط لإيجاد صيغ تفاهمات تخدم مصالح وأهداف جميع الأطراف المتشاطئة برعاية أميركية.

 - لم تكن أميركا أول من ينتقد المشروع هناك وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، الذي قال قبل أشهر "عندما نأخذ كلفة هذا المشروع وتنفيذه بعين الاعتبار، نجد أن المشروع الذي اقترحته اليونان لن يكون خيارًا جيدًا أثناء مقارنته بالمشروعات الأخرى على المدى المتوسط والطويل. الارتفاع المهول في الكلفة إلى جانب استبعاد تركيا من المشاركة في تنفيذه سيزيد من صعوبة إنجازه". رسالة روما كانت لفرنسا التي تحاول فرض نفسها في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، لكنها كانت لواشنطن التي تتردد في تحديد خياراتها إلى أن حسمت موقفها قبل أيام وهو ما قوّى الموقف التركي أكثر فأكثر.

- تريد واشنطن التمسك بحلفائها التقليديين الذين تستطيع الاعتماد عليهم في المنطقة أمام أي سيناريو محتمل حيال إيران، وتركيا إحدى أهم هذه الدول. ثم هناك النفوذ الروسي المتزايد في دوائر استراتيجية ساخنة مع أميركا في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى حيث التموضع التركي المتصاعد والذي قد يتحول إلى عبء أكبر على واشنطن عندما تلتقي المصالح التركية والروسية. التضحية بمشروع "ايست ميد" حتى ولو كان يغضب أثينا أهم بكثير من خسارة أنقرة في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الإدارة الأميركية.

- هناك حراك روسي صيني إيراني يتحول إلى تحالف ثلاثي ضد أميركا التي تحتاج إلى حلفاء حقيقيين تعتمد عليهم. فريق عمل بايدن يريد أن يرى تركيا وإسرائيل ومصر في خندق واحد أمام سيناريو التصعيد الروسي على أكثر من جبهة وخسارة تركيا في مثل هذه المعادلات قد يقلب كل الحسابات والتوازنات رأسا على عقب.

- التراجع عن مشروع "ايست ميد" أو أية اتفاقية ترسيم حدود بحرية تركية إسرائيلية في شرق المتوسط سيأخذ حتما بعين الاعتبار مصالح مصر، وما تريده وتقوله خصوصا بعد الاتفاقية البحرية التركية الليبية التي رفضتها القاهرة رغم أنها تعطيها امتيازا بحريا بلغ مداه نحو 11 ألف كيلومتر مربع بالمقارنة مع اتفاقياتها مع اليونان وقبرص اليونانية. التسوية – الصفقة التي تطرحها إدارة بايدن بهدف تسجيل اختراق استراتيجي في المنطقة بعد تقدم روسي بالنقاط عليها تقوم على تفاهمات تركية مصرية إسرائيلية بدعم وشراكة إماراتية في تمويل المشروع الذي سيحفظ حصة اليونان ويسهل رسم الخرائط البحرية ويفعل مشروع نقل الطاقة عبر منصة شراكات جديدة ترضي الأطراف وتنهي الكثير من الخلافات وقد يكون ملف الأزمة القبرصية بينها.

 لماذا تفعل واشنطن اليوم عكس ما كانت تلوح به وتذهب باتجاه إرضاء أنقرة وهي في خلاف حقيقي معها في التعامل مع الكثير من الملفات الثنائية والإقليمية؟

الإجابة هي عند أردوغان الذي أعلن تصلب بلاده في رفض "ايست ميد" واحتمال تحوله إلى سبب في الحرب كونه يمر في المياه التركية بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، وإصرار أنقرة على أن المسألة تحتاج إلى موافقتها أو مشاركتها في المشروع. لكنه كان متعاونا ومنفتحا على واشنطن عندما حاول طمأنتها بحديثه عن احتمال التعاون مع إسرائيل في شرق المتوسط والبحث عن إحراز تقدم بينهما عبر مقاربات إيجابية على أساس الربح المتبادل.

 خيبة الأمل اليونانية كبيرة خصوصا إذا ما صحت المعلومات التي أدلى بها نائب وزير الخارجية اليوناني الأسبق كريستوس روزاكيس، قبل أيام حول تراجع بلاده عن قرار توسيع مياهها الإقليمية في بحر إيجة من 12 ميلاً وقبولها تقليص عمق مياهها إلى 10 أميال. هي خطوة انفتاح على تركيا تتم بضغط أميركي باتجاه حماية الحوار الاستكشافي الذي بدأ مجددا بين أنقرة وأثينا قبل أشهر. أزمة أثينا هي ليست في وصفها التحفظات الأميركية على المشروع بمثابة ضربة قاصمة لأهدافها في شرق المتوسط، بل إعلانها أنها تلقت "هزيمة فادحة يقابلها انتصار تركي كبير"، حيث التقت المواقف التركية والأميركية في توصيف المشروع "بمصدر توتر في شرق المتوسط ". ورطة اليونان الأخرى ستكون عند سقوط تفاهمات القمة الرباعية التي شهدتها بافوس القبرصية في نيسان المنصرم بمشاركة إسرائيلية وإماراتية، وكانت أثينا تستقوي بها للقول إن تركيا تعرض استقرار المنطقة للخطر، وإن هدف أنقرة هو السيطرة سياسيا وعسكريا على جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، فيأتيها موقف جديد يذكرها أن تركيا تمتلك أطول شريط ساحلي مطل على البحر المتوسط في المنطقة، وأن سقوط الاتفاق الثلاثي حول "ايست ميد" مثال جديد على المحاولات الفاشلة لإبعاد تركيا عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط ولإقصائها وتجاهل حقوق القبارصة الأتراك هناك.

المهم بالنسبة لأنقرة هو قبول إدارة بايدن صعوبة التحرك الإقليمي في مناطق نفوذ تركية دون موافقة ودعم تركيا

"التكويع" الأميركي حيال مشروع "ايست ميد" لنقل الطاقة الإسرائيلية إلى أوروبا عبر قبرص واليونان بالنسبة لتركيا هو تراجع أميركي سياسي ومراجعة مواقف في الملفات الإقليمية أيضا. المهم بالنسبة لأنقرة هو قبول إدارة بايدن صعوبة التحرك الإقليمي في مناطق نفوذ تركية دون موافقة ودعم تركيا، وفتح الأبواب أمام التهدئة وتخفيف التوتر في ملفات خلافية ثنائية وإقليمية كثيرة، وإشعال الضوء الأخضر أمام ولادة تحالفات جديدة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحاصلة في المنطقة.

احتمال ولادة مشروع منصة شرق أوسطية بتركيبة جديدة وبرعاية أميركية تنهي الأحلام الأوروبية والفرنسية تحديدا هو الأقرب والأقوى اليوم. انهار مشروع "ايست ميد" فهل انهار معه مشروع منصة التحرك السباعي ضد أنقرة في ملف شرق المتوسط أيضا؟