انتظر التعليمات

2020.09.29 | 00:05 دمشق

58ef9044c3618831458b4697.jpg
+A
حجم الخط
-A

أتاحت لي الظروف أن التقي بشخصية تونسية وطنية لعبت دوراً في استقلال تونس وفي بناء دولتها الحديثة الى جانب الحبيب بورقيبة وهو وزير سابق للدفاع شغل أيضا منصب رئيس بلدية العاصمة تونس. وقد روى لي بأن الرئيس بورقيبة كان ينوي هدم مجمل أسواق المدينة القديمة واصلا الوجه البحري للمدينة بجادة عريضة تصل الى منطقة باب السويقة الواقعة في الطرف المقابل سعياً لتحديث الحياة الحضرية. وبالتالي، بدأ العمل على شق هذه الجادة العريضة والتي كان المطلوب منها أن تكون قاعدة لعملية إعادة التخطيط الحضري الحداثية. لكن رئيس البلدية والوزير السابق المرحوم، استطاع، ولقربه وصداقته مع الرئيس الراحل، أن ينجح في إقناعه بالتخلي عن هذا المشروع الذي كان سُيفضي حتماً إلى إزالة هوية العاصمة المتمثلة بمدينتها القديمة وأسواقها التقليدية.

تم إنقاذ المدينة القديمة وبقي جزء من الجادة للتذكير بمخطط حداثي / تخريبي توهّهم كثيرون من القادة السياسيين كما النخبة المثقفة في عديد من بلدان العالم الباحث عن النمو، وما زالوا، أنه مفتاح للتقدم حضريا واقتصاديا واجتماعيا. وصار هذا الجزء معلماً تجارياً هاما ً في العاصمة، كما تم اللجوء إليه، في تنظيم المسيرات المؤيدة التي كانت تميز العهود السياسية منذ الاستقلال، وصولاً إلى التجمعات الاحتجاجية، والتي بدأت قبل أشهر عدة من خروج نظام بن علي من قصر قرطاج.

هذا المكان شهد حلقات عدة من مسلسل الثورة التونسية منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية التي أقصت نظام زين العابدين بن علي في شهر كانون الثاني من عام 2011. وقد اشتهر لدى المتابعين للثورة مشهد المحامي الشاب الذي خرج ليلاً في منتصف الجادة مُنبئاً بسقوط الرئيس الديكتاتور وهو يصرخ: "بن علي هرب". وكذا سجلت العدسات مشهد الرجل الكبير في السن الذي كان يبكي فرحا وهو يقول مشيراً إلى الشيب في شعره "لقد هرمنا". إذا، ارتبطت هذه الجادة بالمشهدية الثورية والتي كانت أقواها تأثيراً وأشدها رمزية، تعاقب الآلاف على الاعتصام أمام أبواب مبنى وزارة الداخلية الواقع في مدخل الجادة البحري. مبنى قميء كان المرور أمامه وعلى بعد أمتار عدة يبعث على "القشعريرة" وهي العلامة المسجلة لكل من سكن في دول سادتها ثقافة الخوف. ويقول التونسيون إن أقبيته قد شهدت حفلات تعذيب تليق بالأنظمة العربية المستبدة.

وبعد انتصار الثورة التونسية الجزئي وزوال نظام الحكم السابق، استمرت الجادة في لعب دور نقطة الالتقاء لكل التجمعات والحشود المطالبية والتي تكاثرت في مرحلة ما بعد سقوط نظام بن علي. وكان درج المسرح الوطني في منتصف الجادة نقطة اللقاء المفضلة لجل هذه التجمعات والتي كان آخرها قبل عدة أيام لقاء تضامني نظمته جمعيات وأحزاب "يسارية" للدعوة إلى رفع الحصار عن نظام الأسد وإلغاء قانون قيصر. تخلل هذ التجمع إلقاء كلمات لممثلين عن

المسيرون لهذه الحملات البافلوفية معروفون بارتباطاتهم السياحية والمالية مع أنظمة اشتهرت بـ "إنسانيتها" كنظامي صدام حسين ومعمر القذافي البائدين

هذا "اليسار" البافلوفي صديق الأنظمة المستبدة والذي لا يحمل من قيم اليسار الإنسانية شيئاً يُذكر أو لا يُذكر. وعلى الرغم من تفاهة المضمون، إلا أن الاستماع إلى هذه الخطابات "الرنانة" له أثر علاجي في بعض الأحيان، ويمكن اعتباره من الطب التقليدي. فعندما يمكن أن يرد كم هائل كما ورد من الكذب التاريخي في عبارات قليلة، يمكن للمستمع الواعي أن يتأكد أنه ما زال هناك إعاقات ذهنية تصيب جموعاً مدجنة بكاملها بعيداً عن الكورونا ومشتقاتها. المسيرون لهذه الحملات البافلوفية معروفون بارتباطاتهم السياحية والمالية مع أنظمة اشتهرت بـ "إنسانيتها" كنظامي صدام حسين ومعمر القذافي البائدين، ولا غرابة بأن تمتد سياحتهم واسترزاقهم إلى مستبدين آخرين. والسؤال ينحصر بالعشرات الذين غسلت أدمغتهم والذين يتحلقون حولهم ويصفقون ببلاهة أطفال طلائع البعث لترهاتهم.

وأثناء التوقف عند بعض العبارات التي يمكن بجهد كبير فهمها، لأن المتحدث "يجعر" ولا يخطب ولا يتحدث، كان أكثرها مبعثاً على الضحك هو قول "عريف" الاحتفال إن النظام العربي الوحيد الذي سيُسقط التطبيع وسيرمي به عرض البحر هو نظام الأسد. وكأن البوق الذي كان يصدح لم يستلم، إلى جانب الراتب، تعليمات واضحة تقول له بأن لا يتطرق لهذا الملف الذي لم تتفوه شفاه دمشق لا الرسمية ولا شبه الرسمية بحرف واحد عنه. وبالفعل، فالأبواق كانوا ملكيين أكثر من مشغليهم. وهذا التفصيل يرجع بنا إلى الماضي القريب حين صافح الأسد الرئيس الإسرائيلي كتساف في جنازة البابا يوحنا بولس الثاني سنة 2005، والتي سجلتها كاميرات العالم قاطبة، إلا أن بوق الإعلام الذي كان مهيمناً حينها، عماد فوزي الشعيبي، نفى وقوعها حتى دون البحث عن تبريرات ما واعتبارها عرضية كما فعل الرسميون بعدها.

فجرى استدعاؤه من قبل ولاة الأمر وتم شد أذنيه وغاب عن الشاشة لفترة طالت. والدرس الذي تعلمته كل الأبواق السورية ومن لاذ ببسطارها، ينص على "ضرورة" انتظار التعليمات حتى في المديح والدفاع: "انتظر التعليمات يا غلام". وعلى ما يبدو، فإن المتفوه التونسي الرعديد، كان متحمساً للغاية للوصول إلى مغلف الجعالة مما أثناه عن انتظار التعليمات من مشغليه. فاقتضى التنويه.

كلمات مفتاحية