اليمين العنصري الإسرائيلي.. و"تأليه" نتنياهو

2020.11.06 | 00:13 دمشق

untitled-233.jpg
+A
حجم الخط
-A

يشهد الشارع الإسرائيلي انقساماً حاداً بين مؤيد ومعارض لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ويصل البعض في تأييده لدرجة التقديس، بينما يطالبه البعض الآخر بالرحيل وينعته بالفاسد الذي يجب محاكمته وبالفاشل لسوء إدارته في التعامل مع أزمة كورونا، التي تشبه "تسونامي" يضرب إسرائيل خلفت تداعيات وآثار عميقة على الاقتصاد وقطاع الأعمال.

بنيامين نتنياهو (71 سنة)، الملقب ضمن الأوساط الإسرائيلية بـ "بي بي"، يمثل أقصى درجات اليمين العنصري المسيطر على الحكم في إسرائيل منذ قرابة العقدين والنصف. ففي عام 1996 فاز نتنياهو على منافسه اليساري المعروف شمعون بيرز في انتخابات الكنيست ورئاسة الحكومة. ومنذ ذلك التاريخ يتربع نتنياهو على قمة السلطة، تسلم رئاسة الوزراء أربع ولايات، ومناصب وزراية سيادية كالخارجية والمالية.

ولاية نتنياهو الحالية هي الرابعة له والثالثة على التوالي منذ 2009، دفع خلالها الشارع الإسرائيلي إلى إجراء ثلاث انتخابات غير حاسمة، تنافس فيها مع تيار الوسط ومعارضين من جنرالات سابقين في الجيش على رأسهم "بيني غانتس" رئيس حزب أزرق أبيض، ولم ترَ حكومته الحالية النور إلا بعد "وثيقة الائتلاف الحكومي"، التي اتفق فيها مع غانتس على التناوب في شغل منصب رئيس الوزراء (سنة ونصف لكل واحد، نتنياهو ثم غانتس)، ولكن بعد مضي ستة شهور من انطلاق الحكومة الائتلافية المتأرجحة يشكك المحللون بنية نتنياهو في الالتزام بالوثيقة الائتلافية، وبات من غير المشكوك فيه أنه لن يسلم غانتس كرسي رئاسة الحكومة في أواخر عام 2021، نتيجة سياساته وتفرده بإدارة شؤون البلاد وتعطيل إقرار الميزانية والتهرب من المحاكمة بتهم الفساد الموجهة إليه، ويواصل شن الهجوم على مؤسسات الدولة العميقة في إسرائيل، الإعلام والقضاء، ويتهمها بمحاولة الانقلاب عليه وتأليب الشارع ضده وبأنها "انقلاب على الشرعية".

وتشهد إسرائيل في الآونة الأخيرة بأزمة سياسية حادة تجعل مصير الحكومة متأرجحاً بسبب تعنت نتنياهو وتفرده بالحكم، إضافة إلى أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية عاصفة بسبب وباء كورونا، الأمر الذي من شأنه أن يعمق المأزق الحكومي، ويعتبر نتنياهو سببه الرئيسي وعموده الذي يقسم الشارع الإسرائيلي انقساماً شاقولياً.

ووسط هذه الأجواء المشحونة والتي تفرز الإسرائيليين إلى مؤيد لنتنياهو ومعارض له، هناك قطاع واسع من المتدينين المتطرفين في إسرائيل، جماعات وأفراد، يرى نتنياهو كـ “ملك مرسل من عند الرب"، ويلقبونه بـ "بي بي الملك"، في تمجيد يصل لدرجة التأليه.

تمجيد نتنياهو وتأصيل وصفه بـ "بيبي الملك" وشيوعه في الخطاب العام من قبل أتباع التيار اليميني ‏المتطرف والمؤيد لنتنياهو، ليس أمراً حديثاً

وبات شائعاً في الآونة الأخيرة استخدام وصف "الملك" عند التطرق للحديث عن نتنياهو في وسائل إعلام ومنصات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، ولا يقتصر ذلك على مؤيديه وأنصاره من اليمين وإنما من قبل معارضيه ومنتقديه أيضاً من باب السخرية والتهكم.

بحسب مقال للكاتب الإسرائيلي "دور ساعر من"، نشرته مجلة "كلكالست" في ملحقها الأسبوعي، منتصف الشهر الماضي، فإن كثرة تداول وصف "بي بي الملك" في النقاش العام وتكراره تؤثر على الوعي الجمعي في الشارع أكثر مما يبدو، ويعتبر وقوداً يشعل الصراع بين المعسكر الذي يؤمن بضرورة "الخضوع للملك وكأنه هبة من الله، يحمل الخير الذي لا يمكننا توقعه"؛ وبين معسكر يرى وجوب عدم تقديس الحاكم والاقتناع بأن على المواطنين حماية قيم الجمهورية والحرية، ويرى من الخطر وضع رئيس الوزراء في مكانة لا يمكن المساس بها.

تمجيد نتنياهو وتأصيل وصفه بـ "بيبي الملك" وشيوعه في الخطاب العام من قبل أتباع التيار اليميني ‏المتطرف والمؤيد لنتنياهو، ليس أمراً حديثاً وقد طُبخ على نار هادئة عبر سنوات ولكنه ازداد في الشهور ‏الأخيرة.  ووفقاً لما رصدته المجلة العبرية، يتردد في المجموعات وغرف التواصل والتعليقات والمنشورات على منصات التواصل الاجتماعي للتيار المتشدد استخدام عبارات من قبيل "لا عليك يا ملك"، و"سبت مبارك يا ملك الملوك.. يا من بحكمته اللامتناهية يؤمن لنا الحراسة والحماية.." و "لن يساعدنا أحد غير بي بي الملك إلى حين مجيء المسيح المخلص"، وهناك بالفعل من يرسمه ويصوره بهيئة ملك يعتمر تاجاً أو يصوره على أنه النبي موسى.

ولا تقتصر أوصاف الملكية على نتنياهو بمفرده بل تطول باقي أفراد أسرته، وتنقل "كلكالست" عن صفحة على الفيسبوك باسم "محبو السيدة سارة نتنياهو"، يطلق مرتادوها على زوجة نتنياهو (سارة) لقب الملكة ويطالبونها بأن على عاتقها تقع مسؤولية الحفاظ على بيت الملكية، "قري عيناً يا سارة واحرسي جيداً زعيمنا المبجل"، وكذلك ابنه "يائير" حظي في أكثر من موضع بلقب "أمير".

ولم يعد وصف نتنياهو بالملك محصوراً بالعالم الافتراضي وإنما أصبح جزءاً من الخطاب العام في الشارع، ولا مقتصراً على مؤيديه فقط، وإنما ينتشر في أوساط معارضيه ويستخدمون في لغة انتقادهم له وصف "الملك" و"القيصر" و"الدوق"، وعبارات من قبيل "ملكنا عارٍ وأعور"، لكنهم يفضلون نعته بـ "قيصر" أكثر من "ملك، لأن التاريخ اليهودي حافل بقياصرة أجانب دمروا "الدولة" وقياصرة روما هم رمز للشر في التراث اليهودي.

الجدل الدائر في إسرائيل اليوم بين، كيف تحول نتنياهو إلى ملك في عيون أنصاره، ومنزه عن الانتقاد؟ وبين، لماذا يشار إلى رئيس حكومة (في دولة تنتهج الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع) بأنه مرسل من الله وتجسيداً طبيعياً للإرادة الإلهية؟

تساؤلات عميقة في الشارع الإسرائيلي تعكس حالة من الاستقطاب الحاد بين يمين عنصري متطرف وتيار وسط أو المركز (قريب من توجهات نتنياهو العنصرية ولكنه يعارض التقديس)، في ظل تراجع دور اليسار الحقيقي لدرجة التلاشي من الخريطة السياسية الإسرائيلية بعد انتخابات 1996.

وصف "ملك" الملصق بنتنياهو لا يعادل التعابير في اللغة اليومية الدراجة كنوع من الإشادات والإطراء أو المجاملات "كم أنت ملك" أو "ما أحلاك"، وإنما يشير إلى بعد لاهوتي حيث الملك يعادل النبوة وبأنه مرسل من السماء إلى الشعب. وممثل للإرادة الإلهية التي لا تعرف الخطأ، أي لا يجب انتقاد أقواله وأفعاله. وتنتشر في أوساط محبيه قصص عن أنه لا ينام ولا يأكل ويعمل فوق الحد المعقول، ورسم صورة ذهنية له بأنه فوق بشري.

وهي أوصاف توراتية ذات بعد رمزي بحمولات كهنوتية التي تشكل الجزء الأكبر من التركيبة الذهنية للمسألة اليهودية ككل، ويبرر الكاتب "دور ساعر من" استخدام عبارات الملك من قبل اليمينيين "هي شوق للحصول على قائد قوي، وأب يرعانا ونحميه".

ويرتبط التاريخ اليهودي بملوك مشهورين كالملك داوود والملك سليمان وسردية "المسيخ المخلص" الذي يظهر في آخر الزمان، ويشكل عصر الملوك جزءاً مهماً من الحكاية الدينية والكتاب المقدس لدى اليهود، أي أن وصف ملك يتعدى كونه منصب لحاكم يملك الحكم والبلاد كما في الأنظمة الملكية، وحتى الحركة الصهيونية "اليسارية" صنعت الملوكية عندما أطلقت على مؤسسها تيودور هرتزل لقب "ملك اليهود".

ويتناغم نتنياهو في تصرفاته وتفرده بالسلطة وإيحاءاته مع الصورة الذهنية التي يرسمها له أتباعه في أنه ملك يملك إمبراطورية عسكرية واقتصادية مثل "الملك داوود المطارد من قبل الملك شاؤول"، ويعززها من خلال تفاخره بإنجازاته، بين الحين والآخر، وما قدمه لإسرائيل خلال سنوات حكمه وأن الإعلام والقضاء وجهات أخرى تحاول الانقلاب عليه، لأنها تنتقد فساده واستئثاره بالسلطة وتراه يخلط بين مصلحته الشخصية والمصلحة العامة، وتحاول تحريك ملف محاكمته بتهم الفساد، ووقفت بوجهه -قبل أسابيع- عندما أصر على فرض الإغلاق الشامل خلال الموجة الثانية من كورونا لمنع التظاهر والتجمهر، لأنها كانت ترى قرار منع التجمهر هو لإسكات منتقديه أكثر مما هو إجراء وقائي.

كما لم تشفع اتفاقيات التطبيع العلنية والمتزايدة، لنتنياهو بتعزيز مكانته داخل إسرائيل، وتشير الاستطلاعات الأخيرة إلى تراجع شعبيته بالتزامن مع هذه "الإنجازات التاريخية" على صعيد السياسة الخارجية، ويعود السبب الأهم في ذلك إلى فشله في إدارة أزمة كورونا، التي أجبرت الدولة على فرض الإغلاق مرتين هذه العام، ويتهمه معارضوه والمتظاهرون بأنه "يخرب الدولة"، وفقاً لتصريحات وزير السياحة المستقيل، وبأنه يلعب بمصير إسرائيل خدمة لمصالحه الشخصية للبقاء في الحكم.

ويدرك العقلاء وأصحاب نظرية الواقعية السياسية أن هذه ليست مجرد أزمة عابرة بل تأسس لشرخ يحمل عواقب في مستقبل الأيام، مادام اليمين العنصري يخنق البلاد من أجل البقاء في الحكم.