الولايات المتحدة وتركيا ودبلوماسية الاعتراض والجنوح

2020.08.27 | 01:05 دمشق

20200826_2_44056288_57677427.jpg
+A
حجم الخط
-A

لاشك في أن هناك خللا في بنية النظام الدولي تقوم القوى الكبرى بترسيخه من خلال منع شعوب وحكومات دول المنطقة من التصرف بحرية سوى في هوامش تحددها، ولا تكتفي القوى الكبرى بفعل ذلك بالطرق السرية بل تلجأ أيضا إلى محاولات الإذلال الواضح للدول.

وفي هذا السياق أستحضر ما كتبه برتران بديع أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس في كتابه "زمن المذلولين"، أن الإذلال أصبح مبدأ منظما للنظام الدولي، حيث تتعامل القوى الكبرى مع مسائل محلية في دول أخرى على أنها مسائلها الخاصة وقد رأينا هذا الأمر في الاستعراض الذي قام به ماكرون في لبنان.

يشير برتران بديع في كتابه إلى عدة أنواع من الإذلال الذي يمارس في النظام الدولي ومنها الإذلال بواسطة الانتقاص عبر تحجيم المهزوم في حروب سابقة، الإذلال عبر إنكار المساواة التي ذكرت كقاعدة في اتفاقية وستفاليا عند اكتشاف أن الآخر يحمل أيديولوجيا وثقافة وديانة وحتى عرقا آخر.

أما النوع الثالث فهو الإذلال بواسطة الإقصاء وهو نتيجة للنوع الثاني، وبالتالي يتم تهديد بعض اللاعبين بحصرهم في دور "المواطن السلبي" في المجتمع الدولي، ولعل هذا النوع ما تتعرض له تركيا عندما يتم استبعادها من المشاركة في المنتديات أو في الاجتماعات المهمة التي يكون لها علاقة بمستقبل المنطقة، وقد عاشت تركيا هذا في مسألة عضويتها في الاتحاد الأوروبي وعاشته مؤخرا في منتدى شرق المتوسط والذي بدا منتدىً إقليميا إلا أنه لم يتشكل إلا بضوء أخضر من القوة العظمى.

أما النوع الرابع فهو الإذلال بواسطة الوصم عبر وصم الدولة بوصفها دولة مارقة وهذا تم تطبيقه مع إيران والعراق وكوبا، وتحاول دولة الاحتلال تطبيقه مع حماس.

تتفاوت الدول في التعرض للإذلال فبعضها للأسف يقبل الإذلال ويتعايش معه بل وبعض الدول تقوم بتزيينه واعتباره ميزة للتغطية عليه، ويرى بديع أن الدول التي تتعرض للإذلال يمكن أن "تستعيد زمام المبادرة من خلال صوغ سياسات خارجية مستقلة تواجه التحولات في بنية النظام الدولي وتساعد على التخلص من الإذلال الممارس عليها أو التقليل من آثاره" ويرى أن هذا يظهر في نوعين من الدبلوماسية إحداما دبلوماسية الاعتراض والأخرى دبلوماسية الجنوح. وكلاهما تظهران أنهما خروج على النظام.

تريد القوى الكبرى أن تستمر الممارسات الإذلالية التي تحط من قدرات الدول وتخضعها للوصاية وتشوه سمعة قيادتها وهذا لا يمكن أن يساهم في إحلال السلم.

تريد القوى الكبرى أن تستمر الممارسات الإذلالية التي تحط من قدرات الدول وتخضعها للوصاية وتشوه سمعة قيادتها وهذا لا يمكن أن يساهم في إحلال السلم

وكأمثلة حديثة على ما ذكرناه أعلاه وبغض النظر عن دوافع ومبررات القرار التركي، نجد أن الخارجية الأميركية اعترضت على القرار التركي بتحويل آياصوفيا من متحف إلى مسجد حيث دعت الخارجية الأميركية، تركيا إلى الحفاظ على وضع "آيا صوفيا" كمتحف في إسطنبول كما قال وزير الخارجية مايك بومبيو، في بيان، إن تركيا تدير "آيا صوفيا" كمتحف منذ نحو قرن من الزمان. و"كمثال على احترام التقاليد الدينية للجمهورية التركية وللعصور المختلفة، ندعو حكومة تركيا إلى مواصلة الحفاظ على آيا صوفيا كمتحف، وضمان بقاء المكان متاحا للجميع".

استغربت تركيا بيان الخارجية الأميركية ولم تقبل موقف الإدارة الأميركية وأعربت الخارجية التركية عن استغرابها حيال بيان نظيرتها الأميركية حول آيا صوفيا، وأكدت أنه لا يحق لأحد أن يتحدث عن تركيا بأسلوب التحذير والإملاءات.

وفي شهر آب الجاري أعربت وزارة الخارجية الأميركية، عن "اعتراضها الشديد" على لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا في إسطنبول مع قادة حركة حماس. وحذرت الخارجية أنقرة من أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤدي إلى "عزل" تركيا دوليا.

ونلاحظ هنا عملية التهديد بالعزل أو ما ذكرناه في النوع الثالث من الإذلال وهو الإذلال عبر الإقصاء وهو يتضمن النوعين الأول والثاني وهما الإذلال عبر الانتقاض والإذلال عبر إنكار المساواة.

ولهذا فإن تركيا التي تدرك هذه العملية وترفضها لم تتأخر في إصدار بيان يرد على هذه العملية وهو أمر يتجاوز الموضوع المتعلق بالحدث لأنها تدرك أن الولايات المتحدة ستستمر على الأقل في ممارسة النوعين الأول والثاني مع التلويح بالثالث وهي تتعامل به مع معظم الدول.

وجاء رد الخارجية التركية كالتالي: "نرفض تماما بيان وزارة الخارجية الأميركية بشأن استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قادة من حركة "حماس" .

وأضافت الخارجية التركية أنها تعتبر البيان تجاوزا للحدود، مشيرة إلى أن وصف واشنطن للممثل الشرعي لحركة حماس التي اختيرت في انتخابات ديمقراطية في قطاع غزة بأنه "إرهابي"، لن يساهم في تأسيس السلام والاستقرار بالمنطقة. كما طلبت أنقرة من الولايات المتحدة استخدام نفوذها الإقليمي من أجل سياسة متوازنة بين إسرائيل والفلسطينيين وليس لخدمة مصالح تل أبيب.

ستستمر تركيا في رفض الممارسات الإذلالية الأميركية لأنها تعتقد أن زمن قبول هذه الممارسات قد ولى وأن على الولايات المتحدة أن تبدأ بالنظر لتركيا بطريقة أخرى وتعتبر مقولات أردوغان العالم أكبر من خمسة في سياق الرفض التركي لهذه العملية التي تمارس في النظام الدولي.

كلمات مفتاحية