الوطن الذي يتقيأ شعبه...

2021.09.24 | 06:53 دمشق

479.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقول المفكر  وعالم الاجتماع المصري الدكتور " عبد الوهاب المسيري " : عندما يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليس لحساب أمة، يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن ، وينصرف للبحث عن مصلحته الخاصة.

متأخرين أدرك معظم السوريين أنهم لايملكون وطنا وأن المساحة الجغرافية التي اصطلح على تسميتها سورية قبل مئة وخمس سنوات ليست إلا سجنا كبيرا منذ أن سطا عليها رعاع البعث وانكشاريته قبل أكثر من نصف قرن  وحول شعبها إلى أقنان يعملون بالسخرة لخدمة رهط من اللصوص وقطّاع الطرق استباحوا الدولة وممتلكات الشعب، يملؤهم الحقد على كل ماهو راق ومتحضر فأعملوا معاولهم في هدم تاريخها وتحضرها لأنه يعرّي أنسابهم الوضيعة  وهمجيتهم الرقيعة ، وأخرجوها عن مسار وسياق تطورها وارتقائها ليعيدوها إلى الحضيض الذي لايألفون غيره  وكان لابد من تدمير الكثير من القيم والمثل وطرائق العيش وموارد المعرفة وقبل كل ذلك وبعده تدمير وتفكيك البنى الاقتصادية التي مثلت أهم حوامل الارتقاء والتطور على مختلف الصعد الذي تميزت فيه سورية مبكرا  .. وعلى خلفية هذا المشهد المريع تقيأت سورية المعاصرة أول موجة من مهاجريها والفارين من جحيمها ، رجال دولة وساسة ونخب ثقافية ورجال اقتصاد وصناعيين وملاك كبار صودرت ممتلكاتهم وأممت مصانعهم لصالح التحول لإقتصاد الرعاع ودولة الرعية التي يتم فيها إحصاء أنفاس الناس وهمساتهم على يد الأجهزة البوليسية التي كانت قد باشرت تطوير خبراتها الأولية التي تلقتها زمن عبد الناصر  بالاستعانة بخبرات أجهزة القمع في دول أوروبا الشرقية وخاصة رومانيا وألمانيا الشرقية فضلا عن الأصدقاء السوفييت (!)  ليبدأ تجذير تجربة حكم الحزب الواحد وتطويرها لاحقا لحكم القائد الأوحد.

أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل ثمانينياته وعلى خلفية المشهد الدولي عام 1979 الذي شهد سيطرة ملالي إيران على السلطة وتصفية شركائهم العلمانيين في الثورة على حكم الشاه، وتصاعد المد الجهادي السلفي بدعم من الولايات المتحدة والسعودية وباكستان المرتبط بتطورات التدخل السوفييتي في أفغانستان  ،طفى على السطح حراك مماثل في سوريا  أخذ بعدا عسكريا بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين والقوات العسكرية للنظام التي وجدت فيها فرصة لـــتأديب وترويض المجتمع السوري وإخضاعه بالأدوات الأمنية والعسكرية فاستباحت المدن والبلدات وارتكبت المجازر والاعتقالات وتوجتها بمجزرة مدينة حماة في شباط 1982 والتي راح ضحيتها مايقارب من 40 ألف إنسان وهدمت ثلثي المدينة على رؤوس ساكنيها وسط صمت بقية السوريين ورعبهم ، وصمت كل دول العالم ليس على المجزرة فحسب وإنما على بداية تحول الدولة السورية إلى مسلخ بشري حقيقي ترتكب في سجونه ومعتقلاته الفظائع .

في ظل تلك الظروف تقيأت سوريا مرة أخرى مئات الآلاف من كوادرها العلمية ورموزها المجتمعية والدينية ممن ضاقت بهم سبل الحياة والنجاة من هذه الطاحونة البشرية التي تطحن بين فكيها كل من همس بكلمة أو صدرت عليه وشاية من قريب أو جار أو صديق  وتم الزج بعشرات الآلاف في السجون لعقود ونصبت أعواد المشانق لعشرات الآلاف من خيرة شبابها ودخل المجتمع السوري في سكونية تشبه صمت القبور  لتبدأ مرحلة دولة الفرد القائد .

منذ ذلك الوقت يمكن القول أنه لم يعد في سوريا شيء اسمه دولة بالمعنى الدستوري والمؤسسي فلقد تغولت السلطة وتعملقت للدرجة التي مكنتها من افتراس الدولة  وصارت الدولة مزرعة تحكمها عصابات تحمل مسميات أجهزة حكومية أمنية توزع الأدوار والصلاحيات فيما بينها بإشراف عرّابها الأكبر الذي يحمل اسم رئيس جمهورية، لا وظيفة ولا مهمة لها إلا وظيفة واحدة هي إخضاع المجتمع السوري والاستمرار في ترهيبه، وقد نجحت حقيقة أيّما نجاح طوال حكم الطاغية الذي أورث إدارة المزرعة ومافياتها لابنه بكل سلاسة ماكانت لتحصل لولا أن المجتمع وصل إلى حال غيبوبة سريرية  امتدت ثلاثة عقود (!) .

في ظل تلك الظروف تقيأت سوريا مرة أخرى مئات الآلاف من كوادرها العلمية ورموزها المجتمعية والدينية ممن ضاقت بهم سبل الحياة والنجاة من هذه الطاحونة البشرية التي تطحن بين فكيها كل من همس بكلمة أو صدرت عليه وشاية

مع بداية الألفية الثالثة حاولت سلطة العصابة الحاكمة الترويج لعرّابها الجديد ، الشاب المنفتح الذي سينقل سوريا لعصر جديد ومختلف لكن سرعان ماكانت خيبة الأمل الكاذب وتبدت الحقائق عارية كما يجب أن تكون ، إذ كيف لآلة القمع والتسلط أن تصنع منتجا يخالف مواصفات وشروط خطوط الإنتاج وتم وأد ربيع دمشق مبكرا جدا وخلال أقل من سبعة شهور على تولى الأسد الابن السلطة ، لتنطلق بعدها آلة السلطة لإطلاق عملية تحول جذري في البنى الاقتصادية للدولة والمجتمع تحت عباءة ما سمي باقتصاد السوق الاجتماعي (!) وبدلا من أن يكون هذا النموذج من الاقتصاد وسيلة لتكريس نظام إنمائي اجتماعي من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة ودعمها بمنح وقروض بفوائد بسيطة وميسّرة تعزز فرص تطورها ونجاحها لتكون مساحة حماية للسلم المجتمعي وأمان لقمة العيش  من العولمة الرأسمالية الشرهة، اتجهت السلطة نحو خصخصة بعض القطاعات المنتجة والخدمية وعالية الربحية ودخلت في شراكات مستترة مع بعض الرموز التي أمعنت في نهب ثروات البلد طوال العقود السابقة وشكلت مايشبه تحالفا بين فئة من التجار والصناعيين الذين طفوا على السطح طوال عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت بدعم من شركائهم في القطاع الأمني الذين وفروا لهم الغطاء وسبل الحماية .. بينما كان يرزح مئات الآلاف من الشباب وخريجي الجامعات وأصحاب المهن تحت خط الفقر بلا فرص عمل (!) دون أن يجرؤ أحد على السؤال أين هي موارد بلدنا وثرواتها ؟ وماهي عائدات الدولة منها وأين وكيف تنفق ؟!!! وعندما أثار بعضهم أسئلة عن عقود شركة اتصالات الشبكة الخليوية وآلية إرسائها على رامي مخلوف وسبب منحها للقطاع الخاص أصلا وهي مرفق خدمي عالي الربحية جدا يمكن أن تستفيد منه الدولة بأكثر من عشرة أضعاف ما تتحصل عليه من عقدها مع ( مخلوف ) !!! كان مصيرهم السجن (!)  .

مع بداية العقد الثاني من القرن الجديد شكلت ثورات الربيع العربي التي أحدثت تحولا حقيقيا ومهما في القول بإمكانية التحول الديمقراطي بارقة أمل للسوريين الذين وصلوا حد الاختناق والانفجار ومع ذلك عقدوا الأمل على أن تبادر السلطة نفسها لقيادة عملية إصلاح بنيوي جوهري على المستويين الاقتصادي والسياسي وهو في الحقيقة رهان خاسر وخاطىء في مطلق الأحوال لكنه كان رهانا يقصد به تجنيب المجتمع السوري أي صدام أو مواجهات دموية مع السلطة ، لكن مع الأسف أصرت السلطة على خياراتها الأمنية وواجهت المجتمع بالبطش وعندما فشلت في إخماد ثورته ، نقلت صراعها معه إلى حلبة المواجهة العسكرية المفتوحة التي مانزال نعيش دمارها وآثارها حتى اللحظة ... وخلال هذا الصراع ولفرط بشاعة المجازر التي ارتكبت فيه  ، تقيأت مرة أخرى سوريا عام 2012 دفعة أولى من اللاجئين إلى كل من الأردن ولبنان وتركيا من الذين فروا من  الذبح واستباحة الأعراض وجحيم القصف العشوائي للمدنيين  .

سرعان ماتبعتها دفعة جديدة عام 2015 إثر التدخل الروسي وانتهاج سياسة الأرض المحروقة حيث شاهد العالم كله عبر الشاشات قوافل اللاجئين الفارين من الجحيم السوري يخترقون حدود الدول سيرا على الأقدام وصولا لأوطان جديدة يأمنون فيها على أنفسهم وأعراضهم وأولادهم .

توقفت تقريبا كل العمليات القتالية وتبدد غبار القصف والتدمير ليصحوَ سوريو الداخل على واقع جديد مرعب .. سلطة تدير سلطانها من فوق ركام المدن، عاجزة عن تقديم أي نوع من أنواع الخدمات الأساسية وانهيار في مختلف القطاعات التعليمية والصحية والخدمية وفرص عمل معدومة، وميليشيات تستبيح كل شيء بلا مساءلة ولا حساب، وبلغ الجوع والفقر مبلغه ، ليبدأ سفر الخروج الثالث في أقل من عقد من الزمن، والذي لم يعد مقتصرا هذه المرة على من عارضوا عصابة السلطة أو واجهوها بل صار يشمل الصامتين والمؤيدين والداعمين والمنعّمين وترى الكتل البشرية بالآلاف تبحث عن جواز سفر ومنفذ نجاة .

الآن يواجه كل السوريون الحقائق عارية:

نصف الشعب السوري أصبح لاجئا ونازحا ونصف النصف الآخر يلتحق بالركب ويغادرها الآن .

مدن وبلدات وحواضر مدمرة .. وأملاك وممتلكات مصادرة .. وأبناء معتقلون ومفقودون ومقتولون وحياة مستباحة .

موارد وثروات منهوبة ومرهونة لعقود طوال، لدول دعمت العصابة ودمرت البلد والشعب وتريد الثمن .

مئات من الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال غادروا ومئات يتحضرون للمغادرة ..

 آلاف الشباب وخريجو الجامعات يملؤون قاعات دوائر الهجرة والجوازات بانتظار الحصول على الوثيقة السحرية التي بالكاد تدخلهم بعض بلدان العالم .. وعشرات الآلاف سبقوهم عبر البر والبحر وماتيسر من خطوط الطيران .

  منذ بضعة أيام نشرت إحدى الصفحات الموالية أرقاما مرعبة عن المغادرين لاندري مدى قطعية صحتها لكنها بالتأكيد قريبة جدا من التعبير عن الحقيقة .. تقول الصفحة إن اثنين وعشرين ألفا غادروا مناطق دمشق خلال سبعة عشر يوما فقط وأن تسعة عشر ألفا غادروا حلب خلال أسبوعين فقط بينما غادر حمص خلال شهر واحد ثمانية آلاف وخمسمئة شخص، فيما بلغ مجموع من غادروا كلا من اللاذقية وطرطوس ودرعا والسويداء والقنيطرة خلال نفس الفترة اثنين وعشرين ألفا وخمسمائة وأربعة وخمسين شخصا (!!!) .

هذا النزيف البشري غير الطبيعي وغير المشهود وبصرف النظر عن اختلاف الأسباب والدوافع بين أفراده وفئاته، يؤشر إلى أن مجتمعا كاملا صار رافضا لفكرة البقاء والعيش ضمن المعطيات والظروف الحالية وعاجزا عن العودة للتكيف مع سلطة استباحت ودمرت وطنا كاملا واستجلبت مختلف أشكال الاحتلالات والفوضى لتمكينها على البقاء، وفوق كل ذلك فهي لاتقيم أي وزن لحقوق وحاجات الناس  وتوفير الحد الأدنى من الخدمات لهم وكأنها ممعنة في الانتقام في عموم المجتمع الذي عبّر في معظمه عن رفضه لها ورغبته بتغييرها والانتقال لمرحلة أن تكون سوريا وطنا حقيقيا لشعبها وليست مزرعة لفئة أو عائلة.

 لقد أدرك السوريون جميعا أن القوى الفاعلة على المستوى الدولي والإقليمي ليست في وارد تقديم العون لتحقيق انتقال فعلي وحقيقي وتمكين السوريين من إنجاز تحول نحو بناء دولة حقيقية بديلا عن المزرعة ، وأن المؤشرات وطريقة التعاطي مع الملف السوري وآلية إدارة العملية السياسية بشأنها ، تشير إلى أن تلك القوى ليس لديها مانعا من استمرار تلك السلطة وأدواتها بل وإعادة تعويمها وإدماجها مجددا مع المحيط الإقليمي والدولي رغم كل الجرائم المروعة التي ارتكبتها ، لذلك أخذ السوريون قرارهم بمغادرة بلدهم الذي سيكرههم المجتمع الدولي المنافق على العيش فيه تحت سطوة الحذاء العسكري الذي استباح حقوقهم وكراماتهم وأعراضهم طويلا .

  هذه السردية لابد منها اليوم ليعرف معظم الجيل الذي بلغ العقد الرابع من عمره ، السياق الذي بنت تلك العصابة فيه مملكتها وليدرك ونحن مقبلون على مايفترض أنه صناعة حل للصراع أن أية صفقة يتم إبرامها مع تلك العصابة هي صفقة مع الشيطان ، وكل صفقة مع الشيطان خاسرة بالضرورة .. فليحكم الشيطان وحده لكن حذاري من أن يحوذ شرف وشرعية التوقيع على أي صك معه أو تسبغ عليه شرعية الاستمرار والشراكة

 سوريا في ظل حكم العصابة ليست وطنا صالحا للعيش فيه طالما تعشش في خرائبه تلك الغربان المجرمة القاتلة .. هي بلد طارد للكفاءات والنجاحات ولكل شيء جميل وإيجابي فيه ... سوريا هذا الوطن الجميل أبى أن يهضم أبناءه المخلصين ويطحنهم فأخذ يتقيأهم .. عسى أن يكونوا ذخرا ومدخرا له حين يئين الأوان لهم.