الهُوّية السوريّة بين الحضور والتغييب

2021.01.16 | 00:01 دمشق

hwl-5.jpg
+A
حجم الخط
-A

في ظلّ نزاع الهُويّات القائم اليوم في سوريا، المبني على الطائفية والعرقية والمذهبية، وكذلك الحرب التي عصفت بالسوريين، من تفكّكٍ مريعٍ للنسيج الوطنيّ، أصبحت سوريا في حاجةٍ ماسّة إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ ينقلها إلى الحالة الوطنيّة الجامعة.

إن الهُوية الوطنيّة السورية كانت في طريقها إلى التشكّل، بالموازاة مع بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها، غير أنّ الانقسامات التي أخذت ملامحها بالظهور والتشكّل على صعيد المجتمع، كانت ذات طابع سياسي-اجتماعي، تحكمه صراعات المصالح الاجتماعية.

في مرحلة الانقلابات العسكرية، كانت الهوية الجامعة المانعة تعتمد على العروبة والإسلام كصنوين أساسيين في تشكيل الثقافة، وبالتالي، الهوية التي تميّز السوري من سواه، ضمن التعددية الحزبية؛ ومنذ انقلاب 8 آذار/ مارس عام 1963م وانفراد حزب البعث بالسلطة، دخلت سوريا في مسارٍ من التشظي.

وأعاد الأسد الأب تشكيل السلطة القمعية، لتصبح الأجهزة الأمنية المتعددة هي القابض على المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وتحولت مؤسسة الدولة إلى واجهات شكلية، فمجلس الشعب غدا مجلس التصفيق، والحكومة باتت مجرد شكل تتحكم به الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة الأسد "العائلة". وأمست الدولة هي السلطة، وغابت مفاهيم الوطن والمجتمع والمواطنة، وغدا الناس مجرد قطيعٍ يساق في مسيرات حاشدة تبعاً لأهواء سلطة الأسد الذي غدا هو الدولة، وسموه سيد الوطن، فلم يعد للهوية وجود فعلي يدافع عنه المواطنون في دولة حرة مستقلة.

تراجعت الهُويّة الوطنيّة والهُويّة القوميّة، وبرزت “الهُويّات القاتلة”، وساد الانتماء الأعمى والعصبيّات القبيلة والمذهبية والمحلية الضيقة

فلم تعد هناك تيارات فكرية وسياسية تدافع عن القومية واليسارية والإسلامية، وغدا كلّ منها ينظر إلى نفسه على أنه ممثلٌ للحقيقة المطلقة، فانعدمت لغة الحوار وسادت سياسات الإقصاء والسعي وراء المصالح الشخصية الضيقة.

هنا تراجعت الهُويّة الوطنيّة والهُويّة القوميّة، وبرزت “الهُويّات القاتلة”، وساد الانتماء الأعمى والعصبيّات القبيلة والمذهبية والمحلية الضيقة.

لقد صار جلياً أنّ الإنسان الفرد هو محور الكون، وهو مقصد الوجود، والحرية هي جوهره، وهي المصدر الطبيعي لتشكّل الهوية، التي تعني الإعلاء من شأن الإنسان الفرد بما هو ذات مستقلّة وحرة، والهُويّة في اللغة مشتقّة من الضمير “هو”، ويشير مفهوم الهُويّة واقعيًا إلى ما يكون عليه هذا الإنسان الفرد أو ذاك، أي من حيث تشخّصه وتحقّقه في ذاته، وتميّزه من غيره.  أما العصبيات، والهُويات الجزئية ما قبل الوطنية، فهي من عوامل النزاع والاضطراب الاجتماعي، وتوليد الحروب الطائفية.

إن سوريا الحديثة دولة أتت بها اتفاقيات سايكس بيكو، ولم تكن دولة تعبّر عن مجموعة بشرية بينها مشتركات وروابط. في مثل هذا الحالة، على الدولة أن تبني مثل تلك الروابط، لتخلق نوعًا من الحميمية بين الدولة وسكانها. وعندئذ تنشأ هوية انتماء إلى الدولة وكيانها السياسي والجغرافي.

أكمل الأسد الابن مسيرة أبيه، بكثير من الوحشية والغباء، فتفتت الدولة، وتمترس كل سوري خلف انتماءاته الضيقة التي عدّت الآخر عدوّاً لها

صحيح أن الأيديولوجية القومية قدمت نفسها كهوية، ولكنها قارعت الاستعمار وتساهلت مع الدكتاتوريات، ولذلك لم يرَ حافظ الأسد فيها أي خطر على مستقبله الدكتاتوري. حتى إن الهوية السورية عُدّت نوعًا من الخيانة للهوية القومية العربية التي تشكّل المجال الأبوي للشعب السوري. غير أن سياسات الأسد الأب القمعية، وتغوّل الدولة الأمنية، ومصادرة الحريات، وعدم السماح بتشكيل أحزاب، واستشراء الفساد، جعلت الناس يهجرون السياسة ويتوارون خلف جدرانهم تجنباً لسحق السلطة التي تقتل أصحاب الرأي وتعتقل من يحالفها.

أكمل الأسد الابن مسيرة أبيه، بكثير من الوحشية والغباء، فتفتت الدولة، وتمترس كل سوري خلف انتماءاته الضيقة التي عدّت الآخر عدوّاً لها، ولم يعد للوطنية من معنى، وفقدت الهوية مع غياب مؤسسات الدولة، وتحولت سوريا إلى غابة، يتصارع فيها، ليس السوريون وحدهم، بل دول متعددة، وفصائل متناحرة؛ ما جعل مفهوم الوطن والمواطن غائبة تماماً عن وعي السوري الذي بات يبحث عن لقمة العيش وعن درء شرور الآخرين.

ونحن، في ظلّ نزاع الهُويّات القائم اليوم، أصبحنا بحاجةٍ إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ، يعيدنا إلى الحالة الوطنيّة من خلال تنظيم حوارٍ وطنيٍّ واسع. وهذا لا يمكن أن يكون إلا بإسقاط النظام الطائفي العصاباتي الذي يستقوي بالأجنبي ليكمح جماح الشعب الذي ثار مطالباً بحريته وكرامته.