الهروب هو الوطن

2021.11.17 | 04:37 دمشق

fef808da-2f6f-48a5-8d90-1c0a0ffb7058.jpeg
+A
حجم الخط
-A

تبدو من المفارقات التراجيدية أن أكثر ما يحفظه العرب (أقصد العامة وليس فقط المهتمون بالشعر)، من قصائد محمود درويش هو المقطع الشهير في قصيدة (يوميات جرح فلسطيني): " آه يا جرحي المكابر / وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافر/ إنني العاشق والأرض حبيبة"، إذ بعد عقود ليست طويلة جدا، تحولت حياة العرب وحياة محبي درويش، وعاشقيه الذين حفظوا المقطع السابق كما لو أنه حرز.

أما الوطن فانكشف سريعا: جلاد مجرم وعشيق ساديّ، ينتشي من الألم الذي يسببه لمحبيه ولا يكتفي، تثيره دماؤهم ولا يكتفي، يقتلهم واحدا واحدا ويعلن انتصاره مزهوا بكل هذا الخراب ولا يكتفي، عشر سنوات لم يتبق من تلك الأحلام سوى بقايا في الذاكرة، وسوى أصداء عن أصوات المعتقلين والمختفين في معتقلات الأوطان، وسوى المقابر المفتوحة الممتدة إلى ما لا نهاية، وسوى اليأس الذي يتشخص في مرض عضال ينتقل من واحد لآخر.

فبقدر ما كانت فلسطين قضية قومية عامة، فهي كانت أيضا قضية ذاتية مؤجلة لمواطنين عرب يعيشون في أوطان كان ينهشها الاستبداد والفساد والخراب كما ينهش ذئب جائع فريسته الحاضرة، تحولت حياتهم كلها إلى حقيبة صغيرة يحشر فيها الضروري من الأشياء اللازمة لرحلة الهروب من الأوطان ومن الأرض التي لطالما تبادلت الأدوار مع العشيقة أو الحبيبة لدى الشاعر ومحبيه، الذين أرادوا، في حلم كبير قبل عشر سنوات، أن يجسدوا الشعر ليصبح أمرا واقعا لا مجرد مجاز في جملة جميلة قالها ذات يوم شاعر مشهور. أرادوا أن يبنوا أوطانا تركن الحقائب جانبا، تنبذها، تضعها في المستودعات أو تحت الأسرة، أرادوا أن يقولوا بأن الأرض التي نعيش عليها هي الحبيبة المرجوة، وأن الوطن هو المعشوق المطمئن الحاني المحب الغيور الذي لا يقبل شريكا فيه، ولا يقبل رحيلا عنه مهما حدث. 

بيد أن ما حدث تفوّق على التراجيديا، تفوّق على حلم الشاعر وأحلام معجبيه، تفوّق حتى على الخيال، تلك الحبيبة لم تكن تشبه أحدا سوى (سالومي) حملت رؤوس عشاقها المقطوعة على طبق من تراب وبدأت ترقص رقصة الانتصار، أما الوطن فانكشف سريعا: جلاد مجرم وعشيق ساديّ، ينتشي من الألم الذي يسببه لمحبيه ولا يكتفي، تثيره دماؤهم ولا يكتفي، يقتلهم واحدا واحدا ويعلن انتصاره مزهوا بكل هذا الخراب ولا يكتفي، عشر سنوات لم يتبق من تلك الأحلام سوى بقايا في الذاكرة، وسوى أصداء عن أصوات المعتقلين والمختفين في معتقلات الأوطان، وسوى المقابر المفتوحة الممتدة إلى ما لا نهاية، وسوى اليأس الذي يتشخص في مرض عضال ينتقل من واحد لآخر، أو يتشخص في انتحارات باتت ظاهرة عربية بامتياز، حيث أخبار الانتحار لشباب وشابات من بلاد (الربيع العربي) باتت يومية تقريبا. وسوى الهروب. 

من تتاح له فرصة الهرب من هذه الأوطان القاتلة فسوف يهرب، كل يوم يحدث ما يؤكد هذه الحقيقة، الفشل الذريع الذي مني به الربيع العربي، ومنيت به الشعوب التي تمنته، والثورات المضادة التي حصلت، والاستشراس الذي عادت به الأنظمة القديمة لتحكم من جديد بمنظومة أكثر عنفا وفسادا وديكتاتورية، والصمت المريب للمنظمات الدولية المعنية حيال الجرائم المرتكبة ضد الشعوب، والموافقة الضمنية للمجتمع الدولي ودعمه اللا محدود لأنظمة القمع مع بروباغندا مستمرة عن المطالبة بالديمقراطية والبحث عن حلول لمشكلات هذه البلدان، مع التردي المهول في الأوضاع المعيشية والاجتماعية لبلدان الربيع العربي، ومع استشراس التيار الديني وتحالفه غير المعلن مع الأنظمة الحاكمة، ومع التطرف والتطرف المضاد الذي بات سمة من سمات هذه المجتمعات، ومع الانقسام والفرز الطبقي في كل تفصيل من تفاصيل الحياة في المجتمعات العربية، ما الذي يتبقى أمام أجيال هذه المجتمعات سوى الهروب؟!

بيد أنه حتى الهروب لم يعد ممكنا: (الموت من ورائكم والموت من أمامكم)، هذا هو حال من يقرر  الهرَب حاليا، فدول العالم الغربي التي تعيش في صراعات سياسية واقتصادية، ستجد أنظمتها في الهاربين من الموت استثمارا مناسبا لتبادل الاتهامات وعقد الاتفاقات، وتجار الموت وبائعو الأوهام جاهزون دائما لتحقيق الأرباح، اقرؤوا عن المراكب الغارقة يوميا في البحر المتوسط، المراكب المحملة بمئات الشباب العربي، اقرؤوا عن القتلى برصاص حرس الحدود في الدول المطلة على البحر المتوسط، اقرؤوا عن عصابات السرقة والقتل والابتزاز والاغتصاب في الدول القريبة من أوروبا، اقرؤوا عن مئات بل آلاف العائلات العربية التي تدفع بأبنائها للهرب من جحيم الأوطان، لتعيش بعد أيام مآتم رحيلهم الأبدي، اقرؤوا عن التائهين والعالقين في الغابات الأوروبية وهم في طريقهم نحو بلاد آمنة معرضين للموت قنصا وبردا وجوعا وقتلا، اقرؤوا عن العالقين على الحدود بين الدول الأوروبية، أو العالقين في مخيمات لا تصلح لأن تكون سكنا لأي مخلوق على وجه الأرض، اقرؤوا عن الأطفال في هذه المخيمات عن فقدهم لكل معاني الطفولة، كيف سيكبر هؤلاء وكيف ستكون حياتهم؟! اقرؤوا عن كل هذا الموت اليومي للهاربين من أوطانهم، اقرؤوا عن السوريين الذين يعيشون في البلاد العربية والقريبة، يعيشون  كما لو أن حقائب الرحيل مجهزة وموضوعة وراء باب الخروج، إذ لا يدرك أحد ماذا سيحدث له بعد قليل، فربما يأتي من يطلب منه المغادرة من دون أي نقاش.

لو أن محمود درويش كان حياً في هذا العقد من الزمن هل كان سيعلن اعتذاره عن ذلك المقطع الشعري؟ أم كان سيتهم الهاربين بالتخلي عن أوطانهم وأحلامهم وخيانتها مثل ما يفعل بعض المثقفين هذه الأيام؟ وهل كان الوطن سيبقى بالنسبة له كما كان يراه؟  لكن حتى  الحلم الفلسطيني نفسه قد تغير، حتى الذين لطالما كان لديهم حلم العودة وعادوا بعد أوسلو هاهم يرسلون أبناءهم في رحلة الخطر هربا من الموت من اليأس في هذه الأوطان البائسة، الوطن ليس حقيبة، هذا صحيح يا درويش، هو أصغر من أن يكون حقيبة وأضيق، وخامته رخيصة، ستتمزق عندما نضع  فيه أصغر الأحلام، الوطن ليس حقيبة، الحقيبة هي الوطن، وأحيانا، في حالتنا الراهنة، الهروب هو الوطن.