الهاوية التي "تحتضن" سوريا ولبنان

2020.05.17 | 00:02 دمشق

ayran-tsnw-almkhdrat-balmntqt-aljnwbyt-fy-swrya.-waltswyq-fy-alswdyt-walardn.jpg
+A
حجم الخط
-A

كتبنا في الأسبوع الماضي عن اقتصاد التهريب بين لبنان وسوريا، بوصفه واحداً من علامات الدولة المارقة أو سمة متأصلة في ما يسمى "محور الممانعة"، التي تدمج السياسة والاقتصاد باللصوصية والجريمة المنظّمة.

قبل ثلاثة أيام، أطلّ حسن نصرالله بخطاب خصّه للشأن السوري. وقال عن قضية التهريب: "مكافحة ذلك تحتاج إلى تعاون بين الحكومتين والجيشين". والفحوى من قوله هذا أنه يطلب التطبيع بين الدولة اللبنانية ونظام الأسد. وبالطبع، أعلن رفضه المطلق لنشر قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) على حدود البلدين، كتوسيع لمهامها وفق توصيات قُدمت إلى مجلس الأمن، معتبراً ذلك "أمراً خطيراً".

بغض النظر عن قابلية الأمم المتحدة وعن قدرتها الآن على توسيع مهمة "اليونيفيل"، إلا أن رفض نصرالله لطرح كهذا، هو رفض منطقيٌ وبديهي بالنسبة إليه وإلى النظام. فتلك الحدود هي بالأحرى شبكة معابر غير شرعية، تكفل للحزب ليس لإدارته التهريب وحسب، وإنما سيطرته على الطرق العسكرية من داخل لبنان إلى داخل سوريا. والواقع أن حزب الله ألغى الحدود عملياً. وانتشاره في ريف حمص والقلمون الغربي وريف دمشق والزبداني وصولاً إلى تخوم درعا والقنيطرة.. يتطلب حرية حركة كاملة بين البقاع اللبناني والسلسلة الجبلية ("الشرقية" لبنانياً) وكامل الشريط الجغرافي السوري الغربي. عدا أن تلك التخوم تحولت إلى شبكة هائلة من المعسكرات والمخازن الاستراتيجية، باتت حاجة جوهرية لديمومة قوة الحزب ووظيفته ومشاريعه المستقبلية في البلدين.

وتتأكد الأهمية المصيرية لهذه السيطرة على جانبيّ الحدود، عندما تحدث نصرالله بكل ثقة وحزم عن  أن "بشار الأسد باقٍ، ومن يراهن على سقوط النظام هو واهم". وقال أيضاً: "إن مطلب انسحاب حزب الله والمستشارين العسكريين الإيرانيين من سوريا لن يتحقق".

بمعنى آخر، ثمة نية راسخة في البقاء إلى الأبد في سوريا، خصوصاً أن نصرالله (وإيران من ورائه) ربط هذا الوجود بمنع "النفوذ الصهيوني في سوريا"، كما عاد وبرّر التدخل في الحرب بـ"حجم المخاطر الذي تتهدد فلسطين والمقاومة". وهاتان حجّتان تضمنان "شرعية" البقاء في سوريا إلى أبد حقيقي يماثل "الأسد إلى الأبد". وطبعاً، سيبقى متغافلاً عن الوجود الروسي وعمق التنسيق مع إسرائيل في سوريا تحديداً.

على كل حال، مطلب تطبيع العلاقات بين الحكومة اللبنانية وبشار الأسد، هو سعي من حزب الله لترجمة النفوذ الإيراني في البلدين، لكنه أيضاً سعي لتطبيع الاقتصادين وفق متطلبات "الممانعة" واقتصادها المارق. ولندرك حجم الكارثة التي يشتهيها نصرالله، فإن التهريب وحده يكلف لبنان سنوياً، وفق أرقام المصرف المركزي، خسارة حوالي أربعة مليارات دولار أميركي. وهو المبلغ الذي بالكاد يمكن الحصول عليه من صندوق النقد الدولي الذي تفاوضه الحكومة اللبنانية بشروط صعبة وقاسية من أجل إنقاذ ماليتها. كما أن السوق السوداء للدولار بين لبنان وسوريا، انكشف تأثيرها الفادح، بانعكاس شحّ الدولار في بيروت على انهيار الليرة السورية أيضاً.

ويبدو أن نصرالله يدرك ماهية شروط الصندوق الدولي (الاقتصادية والسياسية)، ومنها ما يمس حزبه ونفوذه بشكل مباشر: ضبط الحدود ومنع التهريب، مراقبة المطار والمرافئ البحرية والتدقيق في عمل الجمارك وكل أعمال الاستيراد والتصدير. لذا، يقترح نصرالله نظرية يمكن القول أنها "تقاسم الكارثة والعوز والقحط والجوع وأعباء العقوبات المتوالية وكلفة الحصار والحرب"، فيقول مخاطباً الدولة اللبنانية: "كيف تذهبين لطلب المساعدة من الدول؟ ولماذا لا يكون هناك ترتيب للعلاقة مع سوريا؟ فلا يجوز أن يستمر هذا الوضع. لأن ترتيب العلاقة معها يخدم الاقتصاد اللبناني، من هي الدول التي ستقدم مساعدات إلى لبنان؟ هل أميركا التي تنوي الاقتراض أم دول عربية أقدمت على خفض موازناتها؟" وطالب بـ"إحياء القطاعين الزراعي والصناعي في لبنان"، وقال: "إن إحياء هذين القطاعين يحتاج إلى أسواق، وأسواقهما سوريا والعراق، وبوابتهما سوريا".

لننحي "السذاجة" الاقتصادية في كلامه جانباً، فالرجل الذي يعرف عذابات إيران، رغم كل سعتها وقدراتها السكانية والجغرافية، من العزلة والحصار والعقوبات.. يعرف أيضاً أن قوقعة اقتصادية متهاوية وخاوية لبنانية سورية، هي وصفة قاتلة لما بقي من رمق للشعبين. لكنه يعرف أكثر، أن أي حل فعلي للخروج من الهاوية الاقتصادية يتطلب عملياً رأس حزبه ورأس النظام السوري.. بل والنفوذ الإيراني برمته.

في خطابه يظهر شبه يقينه أن لا مساعدات خارجية لإخراج لبنان من حالة الإفلاس، إلا بشروط دولية وأميركية واضحة، يمكن اختصارها بمطلب واحد متكرر منذ خريف 2004، أي منذ صدور القرار 1559 وحتى خريف 2006 مع صدور القرار 1701، ويستمر حتى اليوم، مع آخر تقرير للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش: نزع سلاح حزب الله.

الأكيد أن هذا الشرط شبه مستحيل التحقق في المستقبل المنظور. كما أن شرط إعادة إعمار سوريا وتحقيق السلام فيها يتطلب تسوية سياسية، شرطها البدئي والأولي: تغيير النظام، أو على الأقل، إخراج آل الأسد من الحكم. وهذا أيضاً بحساب نصرالله وخامنئي أشبه بتجرع السم والانتحار. خصوصاً وأن نصرالله على ما يبدو يربط "تحرير فلسطين" ببقاء الأسد! (إلى هذا الدرك وصلت المسخرة المسماة "ممانعة").

إزاء هذا الاستعصاء والمأزق، وطلباً لتثبيت هيمنة حزب الله والأسد وإيران على سوريا ولبنان، سنكون أمام اللا اقتصاد. أقصى الطموح هو "التوزيع العادل" للفقر وربما لما يشبه سوء التغذية والفاقة الدائمة، وصيانة المنظومة المافياوية التي تضمن أموالاً كافية لاستمرار آلة الحرب وتمويل الميليشيات.

بعبارة أخرى، سوريا المدمرة والممزقة والمتهاوية بنظامها الإجرامي ستبقى هكذا حسب اشتهاء نصرالله، أرضا يبابا وقتلا يوميا ويأسا مديدا. أما لبنان، فهو بات بلداً آخر، غير ذاك الذي تألفت صورته في أذهاننا وترسخت فكرتنا عنه لمدة طويلة. بلد لا يشبه اسمه ولا ذاكرته ولا هويته السابقة.

وعلى هذا، عاد مصير لبنان مرتبطاً بمصير سوريا، لا مثلما نشتهي.. بل بصيغة كابوسية أسوأ من زمن "الوصاية" ما قبل 2005.

كلمات مفتاحية