النظام العالمي الجديد يلوح بقوة

2021.09.19 | 06:05 دمشق

jtpwd.jpg
+A
حجم الخط
-A

انفجر العالم دهشة وهو يتابع المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس وزراء أستراليا، حيث أعلن الرئيسان توقيع اتفاقية بيع حصري لسلاح الغواصات النووية الاستراتيجي الذي لم تمنحه الولايات المتحدة إلا إلى بريطانيا حليفتها التاريخية.

وها هي أستراليا قد أصبحت ثالث بلد غربي ناطق بالإنكليزية تمتلك تلك الغواصات التي تستطيع الغطس تحت الماء لشهور وربما لسنوات دونما الحاجة إلى التزود بالوقود والخروج إلى السطح مثل الغواصات التقليدية، مما يمنحها قدرة ومرونة هائلة على التخفي والهجوم وتضليل خصومها.

وما هي إلا دقائق حتى انطلقت ردود الفعل على هذا الإعلان الذي تردد صداه من الصين التي اعتبرت نفسها المستهدف رقم واحد في هذا الإعلان، إلى فرنسا التي اعتبرت نفسها ضحية، إلى روسيا وإيران اللتين حاولتا فهم ما يجري وفقاً لرؤى قادتهما الضيقة والمرتبطة بالغنائم. فها هو الصراع الدولي على العالم يتخذ شكله بعد أن قامت الولايات المتحدة بأكثر من خطوة تكتيكية تتعلق بتحجيم دور الصين المتنامي في العالم، بعد كارثة كورونا التي أضرت بدول الغرب والعالم بشكل هائل، وبشكل أقل مصدر الفيروس (الصين).

فبعد انسحابها من أفغانستان وحدوث جلبة سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول، اعتبرت الدوائر الأمنية العميقة في الصين أن هذا الانسحاب موجه ضدها بشكل أساسي وسيعمل رويداً رويداً على تفعيل مظلومية مسلمي الصين المضطهدين في غرب الصين.

حتى هذا الحين كانت ردود الفعل متوترة ولكن النزاع المتصاعد على السيطرة على المحيط الهندي والهادي وخصوصاً بحر الصين الجنوبي، بين أستراليا والصين كان سبباً لزيادة التوتر والقلق الصيني من الصفقة الثلاثية حول الغواصات النووية، والتي اعتبرت الصين أن أستراليا ستتمكن بعد حيازتها تلك الغواصات أن تخوض في بحر الصين الجنوبي وحتى الشمالي وأن تساهم في الدفاع عن تايوان الجزيرة الصينية التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من سيادتها وتهدد باحتلالها في أي وقت.

عموماً فقد وضعت الصين قانوناً بحرياً جديداً يمنع السفن الغربية، تجارية كانت أم عسكرية من دخول بحر الصين الجنوبي من دون موافقة مسبقة من بكين، وقد سبب هذا القرار توتراً مع الجارة الحليفة لأميركا، أستراليا، والتي باتت تُعتبر رأس حربة أميركية في ذلك الجزء من العالم و خصوصاً بعد الاهتمام البريطاني الأميركي بتسليح الجيش والبحرية الأسترالية بأهم التكنولوجيات الغربية لمواجهة الخطر المتنامي من الصين، مما دعا البعض من المراقبين إلى توقع إعلان تحالف عسكري جديد، يشابه من حيث المبنى والمعنى (حلف الناتو) العسكري الأمني الذي واجه الغرب به الاتحاد السوفييتي السابق ولا يزال مسؤولاً بشكل أساسي عن الأمن في منطقة أوروبا والأطلسي، ولربما سيحمل هذا التحالف اسم (حلف الهادي والهندي العسكري) وستعمل الدول المؤسسة على ضم دول حليفة لها في مواجهة التمدد الصيني غير المسبوق في أسيا والعالم، ومن الدول الجاهزة للانضمام ولكن بحذر إلى الحلف الجديد، اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلاندا والفلبين وفيتنام وبالتأكيد الهند، عدوة الصين التقليدية، والتي سيعني انضمامهما إلى التحالف الجديد، اشتعال مواجهة إقليمية كبيرة ستمتد من أستراليا إلى الشرق الأوسط الذي يترقب التردد الإيراني في الانضمام إلى حلف شنغهاي الذي أعلن تحديه للغرب.

ولكن رد الفعل الأكبر لم يكن حقيقة صادراً من الشرق ومن بكين تحديداً وإنما صدر من إحدى العواصم الغربية الأساسية في حلف الناتو، وهي باريس، التي استشاطت غضباً من تلك الصفقة واعتبرتها فعلاً عدائياً موجهاً ضدها، بل وحسب تصريح وزير الخارجية الفرنسي لوسائل الإاعلام الفرنسية فإنها: "فعل ترامبي عنيف جداً .." فأستراليا كانت قد وقعت مع فرنسا صفقة بقيمة 56 مليار دولار من أجل شراء أسطول غواصات تقليدية لتمكين البحرية الأسترالية وبالفعل بدأت فرنسا العمل على التنفيذ، ليتفاجأ الساسة الفرنسيون مثلهم مثل بقية العالم بذلك المؤتمر الصحفي من دون أي إخطار رسمي بفسخ العقود المبرمة أو بتفسير ما لما حصل.

فسحبت فرنسا سفيريها من واشنطن و من كانبيرا، للتشاور، في سابقة استثنائية بين الحلفاء القدامى، لربما استشاطت باريس غضباً من جراء خسارتها المادية لقيمة الصفقة، ولربما انفعل ساستها من الأسلوب غير الدبلوماسي وغير اللائق الذي انتهجه حلفاء الأمس، ولكنها بالـتأكيد استقرأت تغييراً ما في السياسة الدولية واستشفت بالتالي كذلك عدم وجودها فيه فالعالم يتغير والحرب الباردة التي أعلنها ترامب ضد الصين تستعر في عهد بايدن وتتصاعد فصولها بشكل غير مسبوق، والأحلاف تتشكل، والعالم سينقسم ربما لخمسين سنة على الأقل، ولكن أين هي فرنسا؟

فرنسا ماكرون في تلك الأثناء كانت مشغولة بعقد تحالف مع إيران من أجل تشكيل حكومة جديدة في بيروت، ترأسها نجيب ميقاتي، ويقول المراقبون بأن فرنسا حصلت مقابل تنازلاتها وضغوطها على حلفائها من الساسة اللبنانيين على صفقة نفطية بقيمة 27 مليار دولار في العراق وسط صمت وغضب أميركي وعربي من إعادة شرعنة لوردات الحرب اللبنانية في الحكم هناك.

ولكن باريس استقبلت الرسالة الأميركية بفهم كامل، وقامت برد فعل لتوضيح غضبها، وللسؤال عن مكانها في تشكيلة النظام العالمي الجديد، الذي ستتخذ فيه الحرب الباردة معسكرين ليست فيهما، فمن يكون مع إيران سيكون تلقائياً مع الصين، هكذا هو الفهم البريطاني على الأقل للأزمة.

إن قراءة سريعة لنتائج الحرب العالمية الثانية تعني أن الأصوات التي تتعالى اليوم من أجل إعادة هيكلة مجلس الأمن الذي يحكم العالم ستكون واردة، فألمانيا واليابان والهند والبرازيل تطالب بإدخالها إلى دائرة القرار العالمي، ولكن عدد كراسي حاملي الفيتو هناك قليلة، وحتماً سيكون هناك إبعاد لأحدها، ربما من أجل ذلك نجت بريطانيا بنفسها من الاتحاد الأوروبي، الذي سيحل محل فرنسا في المجلس ربما.

يقول وزير الدفاع الأسترالي السابق في تصريحات صحفية "هذا ليس قرار الذهاب إلى غواصة نووية وحسب، بل هو لتعزيز التحالف الاستراتيجي ضد الصين، وإن حرباً باردة جديدة اندلعت.. والولايات المتحدة ستنتصر ".