النسوية والثورة السورية

2023.02.07 | 05:55 دمشق

النسوية السورية
+A
حجم الخط
-A

في حقل يعد حقلا ذكوريا لا يكاد اشتغال المرأة بالشأن العام، ولا سيما الجانب السياسي، يتجاوز قرنا من عمر الزمن. كانت النرويج سباقة في انتخاب أول امرأة في البرلمان قبل بداية الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من أن ما حققته المرأة من حضور على الصعيد العام بما فيه الحقل السياسي يمكن أن نطلق عليه معجزة تقريبا، فإن مستوى مشاركتها لا يتجاوز  ربع عدد السياسيين المحترفين في العالم، في حين أن عدد الدول التي تتربع نساء على قمة هرم السلطة فيها مازال أقل من نصف العدد السابق. هذا، مع  أن التجارب من هذا النوع الأخير كانت تصب في صالح النساء الحديديات اللواتي كن يتمتعن بخصال "ذكورية" في أثناء ممارسة العمل السياسي، كما هو شأن مارغريت تاتشر، وبناظير بوتو، وأنجيلا ميركل.

عادة ما تتبوأ النساء مناصب وزارية معينة، كالرياضة والشباب والثقافة، وهي الوزارات الناعمة التي تهتم بحماية الفئات الأضعف في المجتمع. سوريا الأسد لم تخرج على هذا التقليد العالمي، فقد تربعت وزيرة الثقافة المزمنة، نجاح العطار، على كرسي الوزارة أكثر من عشرين عاما، وكانت بتقاطيع وجهها الصارمة وشعرها المستعار صورة أخرى للكآبة التي طبع بها حافظ الأسد سوريا في سنوات حكمه المديدة.

لم يكن للحركات النسوية العالمية صدى كبيرا في بلد هيمنت عليه النظرية القومية بغلافها اليساري، وربما كان ذبول الصدى عائدا إلى أن الحقل العام حقل مغلق أمامها، إضافة إلى أن بلادنا كانت معنية بقضايا أخرى. كان المفهوم من تحرير المرأة مغايرا لما سيحدث لاحقا، فقد كان المراد من مشاركة المرأة في الحياة العامة متسقا مع النظرية اليسارية بلونها الذي اعتمد في بلادنا. ولكن، منذ عقد من الزمن تغير الأمر كليا، فالموجة الجديدة من الحركة النسوية العالمية اكتسبت على ما يبدو زخما جديدا، واستطاعت تحقيق اختراقات في أكثر من منطقة حول العالم حتى في المناطق التي كانت تعد حصونا منيعة للذكورية. وهذه الموجة الجديدة تغاير  كليا الحديث التقليدي عن تحرر المرأة.

مشاركة المرأة السورية في المظاهرات والاحتجاجات وتعرضها للاعتقال وما رافقه من ممارسات بشعة من قبل النظام السوري، كان له تأثير مهم في اكتساب المرأة السورية الثقة بنفسها وبدورها

مشاركة المرأة السورية في المظاهرات والاحتجاجات وتعرضها للاعتقال وما رافقه من ممارسات بشعة من قبل النظام السوري، كان له تأثير مهم في اكتساب المرأة السورية الثقة بنفسها وبدورها، وخصوصا بعد عقود طويلة من دخولها العمل والتعليم وحصولها على حقوق مساوية للرجل في كثير من المجالات. ولم يكن صوت المرأة السورية مختلفا عن السياق العام للثورة السورية، فقد أتت مطالبها ضمن المطالب العامة، وإن ظهرت دعوات إلى منح المرأة حقوقا مساوية للرجل، ولاسيما فيما يتعلق بمنح الجنسية لابن المرأة السورية المتزوجة بأجنبي، وفيما عدا هذه الجزئية تقريبا كانت المطالب واحدة. هذا الحضور الفاعل للمرأة السورية في ساحة الثورة كان لا بد أن يجد صداه في المجال السياسي الثوري، فبعد المرأة الناشطة التي كانت تغطي الاحتجاجات والمظاهرات وتشارك في تنظيمها والدعوة إليها، ظهر لدينا المرأة السياسية...إلخ. تجدر الإشارة هنا إلى أن الثورة السورية ضمت في صفوفها نسوة ينتمين إلى تيارات متعددة، فإلى جانب التيار التقليدي العام، وجدت تيارات تقدمية وتحررية، ولم يحدث الانفصال بين الطرفين إلا في مرحلة لاحقة.

حملت السنوات الماضية معها جديدا في خطاب النسوية السورية، إن نظرنا إلى ما سبق بوصفه خطابا نسويا من باب التوسع. الخطاب الجديد يبدو أنه أصبح غير معني بخطاب الثورة، بمعنى أن الثورة ومرادفاتها بدأت تغيب ليحل بدلا منها مفردات مستمدة من معجم النسوية الليبرالية. فإذا جاز القول إن الموجة الأولى من النسوية السورية التي ترافقت مع بدايات الحراك الثوري كانت موجة "تقليدية" بالمعنى الواسع تنظر إلى المسألة من زاوية أنها تأتي في إطار تغيير البنية الاجتماعية القائمة على الاستغلال بكل أشكاله، بحيث بدت في تلك المرحلة نسخة معتدلة أو منقحة عن التصور  الذي يحمل السلطة الأبوية دور الاضطهاد الاجتماعي، فإن الموجة الجديدة أو التيار الجديد بدا أكثر قربا من التصور الليبرالي الذي يحمل المجتمع الذي يقوده الرجال كل أسباب الاضطهاد.

هذا التحول جاء في أعقاب الانفصال بين داخل وخارج، بين المرأة التي بقيت في سوريا والمرأة التي خرجت إلى بلاد اللجوء والاغتراب. ذلك أن حركة اللجوء الواسعة والاختلاط بمجتمعات تتمتع فيها المرأة بحقوق مساوية للرجل أدى إلى انزياح الخطاب النسوي السوري في الخارج على وجه الخصوص باتجاه نقد المجتمع وعاداته وتقاليده، وهذا أمر  لا غبار عليه، ولكنه وصل في الآونة الأخيرة إلى نوع من الحدة والتقريع واللوم، وهذا -إن أردنا إيجاد مسوغ له- ناتج عن حجم الخسارات على المستوى العام في المقام الأول، ومحاولة تعويض هذه الخسارات بإيجاد مجال يجري فيه تعويض هذه الانكسارات، وفي هذه الحالة يتوجه النقد إلى المجتمع.

لا أحد يجادل في أن مجتمعنا مجتمع بطريركي، وأن المرأة فيه ليس لها حقوق كالتي يحوزها الرجل، وأن من الواجب الوقوف معها في محاولة الوصول إلى مجتمع خال من الاضطهاد وضروب القهر والظلم، ولكن الخطأ الذي ترتكبه النسويات السوريات أنهن بدل إيجاد قنوات للتواصل مع المجتمع، والعمل من أجل خلق وعي عام يتعاطف مع قضيتهن ويحمل همها، يحاولن كسر جسور التواصل مع المجتمع، وليس سبب هذا قصر نظر بمقدار ما هو  ناتج عن الرغبة في "الشو" والترند". إن خطاب النسوية السورية، اليوم، يتوجه إلى  الفئات التي  تشاركه الرأي نفسه، بدلا من  البحث عن سند اجتماعي عبر استمالة الفئات النسائية التي تعاني أكثر من سواها، والتي يتعالى عليها من خلال مهاجمة قيمها على نحو مباشر، الأمر الذي يولد رد فعل عكسي.

تبدو النسوية السورية اليوم منبتة الصلة بآلام مجتمعها في الخيام والمنافي، مشغولة بنفسها وقضاياها الخاصة، باحثة عن الشهرة وعالم الأضواء، وهذا أمر يخصها طبعا، ولكن من حقنا أن نسأل: ماذا بقي من ثورية النسوية السورية ضد نظام الإجرام الأسدي؟