الميدان الكُردي شرق الفرات

2019.09.27 | 22:28 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يشهد المسرح الكُردي حالياً انتقالا نفسياً للشعب ما بين خبايا تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدخول شرق الفرات، وحسم قضية منبج وضمها إلى الشريط الحدودي حتى عفرين، وما بين تويترات الرئيس الأميركي ترمب بتشكيل منطقة آمنة، ورغبة تركيا من إدارتها وتسميتها بالمنطقة "الأمنية"، وإن طُبق المشروع بموافقة روسية دون فيتو، لا ترغب تركيا بترك الحضن الروسي. أو بين إمكانية دخول قوات بشمركة روج لإدارة المنطقة مع باقي المكونات، إلى تصريحات قيادات قسد بمنع دخول تلك القوات إلى المنطقة، إلى انتظار نتائج لقاءات واشنطن –أنقرة، أو تنفيذ منطقة آمنة تحت البند السابع تحديداً المواد/ 42,43,44/، حينها ربما تفتقد تركيا لدور مؤثر في المنطقة الآمنة، بسبب الوجود الأوروبي والقبعات الزرقاء.

لا شيء يُخفف من يقين الكُرد بنشوب حرب كارثية في المناطق الكُردية، أو مخاوف على وجودهم التاريخي، فهي بضعة أيام قليلة لأي اشتباكات جديدة تتكفل بتراجع القضية الكُردية عشرات السنين إلى الوراء، وهي ستكون الأولى من نوعها ضمن المدن والأحياء والحارات، ولا تحتاج إلى عبقرية رياضية لمعرفة حجم وكلفة الخسائر البشرية والمادية والبنة التحتية. جميع المعارك التي خاضتها "قسد" كانت خارج جغرافية الوجود الكُردي، وحجم الدمار المخيف في الرقة ودير الزور والطبقة وغيرها، كفيلٌ بردِ الدين، للحد الأدنى من قواعد الاشتباك إن حصل.

كحال باقي الأطراف السياسية السورية التي قدمت تصورات وقراءات خاطئة للمشهد العسكري والسياسي للوضع المُركب والمُعقد الذي تحلت به سوريا جغرافياً وإقليمياً، خاصة عبر علاقاته الإستراتيجية مع إيران وتاليها النفعية مع روسيا.

كان وما يزال الوضع السوري أكبر من المجلس الوطني الكُردي ومن الاتحاد الديمقراطي

فإن التنظيمات الكُردية أيضاً وجدت نفسها إزاء وضع مُتشعب العلاقات والتدخلات الإقليمية، فكانت الطروحات الكُردية للمستقبل السوري في بدايات الحدث، تعاكست بمجملها مع الوقائع التي تعيشها المنطقة. بعيداً عن جلد الذات، كان وما يزال الوضع السوري أكبر من المجلس الوطني الكُردي ومن الاتحاد الديمقراطي، لكن المشكلة هي في حجم خسارة الطرفين وكلٌ بحسب ما سعى إليه، سواء لجهة الجغرافية الكُردية من نهر دجلة وحتى البحر المتوسط "إقليم كوردستان سوريا"وما شهدته من انحسار للمد الجغرافي مابعد شرق الفرات باتجاه غربه، وتأهب الشارع الكُردي للقبول بالتسمية الجديدة "منطقة آمنة شرق الفرات" مع بقاء باقي المناطق تحت السيطرة التركيا من منبج-إن حصلت عليها- حتى عفرين. 

أو لجهة التغير المستمر في المدلولات اللفظية والخطابية للمنطقة المتبقية تحت سيطرتهم العسكرية وهي بكل الأحوال أكثر من 90% من الجغرافية الكُردية الآيلة للقضمِ، والتبدلات الدائمة في المواقف من النظام، والمعارضة، والاستعداد لفتح علاقات مع تركيا التي –أيَّ نوع من العلاقات- كانت تُهمة توشم بكل مخالف لهم في الرأي، فبات من السهل جداً توجههم صوب تركيا، أو فتح قنوات حوار مع المعارضة التي كانت بدورها إحدى التهم الإرهابية التي توشم بها الطرف الكُردي الآخر.

ما استجد مؤخراً هو إحياء اتفاقية أضنه عقب اللقاء التركي –الروسي وعدم طمأنة تركيا، والتي أحسن النظام السوري رد المسجات إلى تركيا، مفادها باختصار: إنهاء المعارضة السورية السياسية الموجودة في إسطنبول، رفع اليد عن المُعارضة المسلحة في عفرين وإدلب وباقي الأماكن، وانسحابهم من مناطق درع الفرات، والتعامل المباشر مع النظام السوري، كنظام شرعي ووحيد لسوريا. لقبول التقارب التركي –السوري، ومقايضة كُل ذلك بالوجود الكُردي في شرق الفرات، والأكثر وضوحاً، إن الاتفاقية لو عادت لحيز التنفيذ مُجدداً سيجد الاتحاد الديمقراطي نفسهُ ممزقاً بين من يعود إلى جبال قنديل، أو إيقاف العمل العسكري والسياسي، والابتعاد عن المنطقة.

قد يكون بصيص الأمل الوحيد المتبقي، مُنحصراً بالموقف الأميركي حيال تنفيذ تصريحاته بحماية الكُرد في سوريا، وهو ما سيُلزم الاتحاد الديمقراطي بدفع فاتورة باهظة لن تقل عن فك الارتباط خارج الحدود، القبول ببشمركة روج آفا، تشكيل إدارة تُعبر عن إرادة جميع مكونات المنطقة، والانسحاب العسكري من الشريط الحدودي.

تقول سير الكُرد، تحديداً في سوريا، عبر عقود النضال السياسي إنهم لم يتعودوا على الاعتراف بالهزائم. ما نعيشه اليوم هو عينه الخطابات التي أعقبت كل ضربة موجعة من الأنظمة ضد القضية الكُردية. لا خطاب يعترف بالهزيمة، مرده أن سكرة الانتصارات أضفت سطوتها على العقول، فسمحت أن يتكرس خطاب الكراهية لاحقاً. لابد من خطاب يعترف المهزوم فيه بعجزه عن مجاراة المستجدات نتيجةً للتغيرات في موازين المصالح الإقليمية والدولية التي كانت وما تزال أكبر وأهم من دماء وتضحيات الكُرد في سوريا، أو على أقل تقدير اللجوء إلى خطاب التخدير المستمر المتعارف عليه، وحدة الصف الكُردي.

خطاب السيد جبار العكيدي من هولير حول مشاركة بشمركة روج آفا في مسك الأرض وسد الفراغ، هو طمأنة بطعم الهزيمة الكُردية، من جهة كان المأمول شعبياً والمنتظر سياسياً أن تلجأ قيادات الاتحاد الديمقراطي ومسد لطلب دخول تلك القوات لا الاستعداد للوقوف بوجههم لو عادوا إلى بيوتهم للدفاع عنها، ومن جهة تالية هو الخطاب الذي شكل ،نوعاً ما، ارتياحا شعبيا للدور الكُردي في مرحلة المنطقة الآمنة.

تفكك المجتمع الكُردي اليوم، بات من أصعب التحديات التي ستواجه أيَّ سلطة مستقبلية للمنطقة

تفكك المجتمع الكُردي اليوم، بات من أصعب التحديات التي ستواجه أيَّ سلطة مستقبلية للمنطقة، فسلسلة المواجهات الإعلامية والخطابية، والقليل من الصدامات الميدانية البسيطة /كمظاهرات المجلس الكُردي ضدَّ مناهج الإدارة الذاتية/ كانت كفيلة بفك ارتباط العلاقات الاجتماعية وإلى حد مُعين العائلية أيضاً. ما يعني أن المرحلة المُقبلة إن لم تشهد ما يُطمئن الجميع، لن تكون مرحلة تمتاز بالاستقرار.

في حين راحت طبقة المثقفين والكُتّاب والأكاديميين التي تغيرت نحو الأفضل إلى حد كبير نتيجة الانبلاج الفكري لدى فئات واضحة بعد تراكم معارفها، راحت تفتقد هي الأخرى لدورها الواجب توافره، بمفاعيل سلطوية وحزبية، رأت فيهم الشيطان الأكبر. خصوصاً وأن الهوس التنظيمي أطاح بفكرة تطوير الحيز الثقافي والرمزي لقسم ليس بقليل من السياسيين الكُرد، والمواجهة الثانية بين الطبقتين كانت حول تلهف الكفاءات للمزيد من الحريات والديمقراطيات والمساحات السياسية، والخروج بنظام مجتمعي عادل، مُقابل تركيز الآخرين على عمليات الطمس والإلغاء للمختلفين، وضرورة التذكير بهذه المعضلة سببها أن من يمتلك القوة الصلبة سيتمكن من السيطرة أكثر على مصادر القوة البشرية.

ثمة "فُستان أو دشداشة" تم تصميمها وخياطتها للمنطقة ومكوناتها عبر أذرع دولية ووفق ما يُستفاد من الخرائط الجديدة، ومن أراد أن يُصبح جسمه السياسي (لبيساً) ما عليه سوى أن ينحت جسده حسب مقاسات الخياط لا وفق سمنه أو كثافة أردافه.