الموقف من القضايا العادلة كلٌّ لا يتجزأ

2021.09.29 | 06:06 دمشق

flstyn-wswrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

الثورات الشعبية السلمية، والتي تتم مواجهتها بأساليب قمعية ودموية، والتي سرعان ما تؤدي إلى لجوء ضحاياها إلى عنف مضاد، مما يجعل من السهل على القوى المتطرفة استغلال الفرصة وحرف النضال السلمي عن مساره، تؤدي غالباً إلى حدوث كوارث بشرية ودمار يُصيب البشر والحجر. كما تتراكم في المجتمعات التي تشكل حاضنتها الطبيعية، مآسٍ إنسانية وهي تُشكّل إحدى أهم النتائج المنتظرة التي يمكن أن تصيبها. ومن خلال محاولة استعراض مجمل هذه العواقب، يمكن التوقف عند أهمها، والتي يستطيع علم الاجتماع مدعوماً من علوم أخرى، كالإحصاء مثلاً، أن يُحيط بها ويقيس أبعادها.

يمكن الحديث إذاً عن ترسيخ الانقسامات في المجتمع، وتعزيز العوامل المشجعة على انتشار الشروخ الطائفية والمذهبية، والقبلية والمناطقية. ومن جهة أخرى، يمكن أن يُلاحظ انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات على أصنافها بين صفوف الشباب والشابات، ومع ما يحمله ذلك من نتائج اجتماعية ونفسية وأمنية لا يمكن قياس عواقبها بسهولة، كما أنه من الصعب أن يتم حصر نتائجها السلبية على جيل بكامله في مدة زمنية محددة. يُضاف إلى ذلك كلّه، تدمير المؤسسات التربوية والتعليمية والذي ينجم عنه خروج مئات آلاف الطلبة من النظام التعليمي. كما أن تدمير القطاع الصحي ومنشآته وهجرة أفراده من أطباء وممرضين، سيؤدي إلى فقدان الرعاية الصحية على مستوى مختلف أفراد المجتمع الضحية. ومن المحتم أن يؤدي ذلك إلى عجز عن تقديم العلاج للأمراض وانتشار الأوبئة. ويمكننا ان نتطرق أيضاً إلى الاعتداءات الجنسية بحق الجنسين، وخصوصاً الصغار منهم، كذلك تزويج القاصرات. وأخيراً وليس آخراً، سيؤدي هذا المناخ إلى ترسيخ ثقافة العنف مقابل منطق القانون مما يُنتج مجموعات تتجاوز الآلاف من السكان في عمر المراهقة والشباب لم تعتد إلا على لغة العنف والسلاح أو الخضوع لهما.

سيؤدي إلى فقدان الرعاية الصحية على مستوى مختلف أفراد المجتمع الضحية

يعكف الأطباء النفسيون كما المحللون النفسيون على دراسة ما يُعتبر أنه "تروما" الحرب على المجتمع بأفراده كافة. وهم ينتبهون بحرص على آثار ما سبق ذكره ويسعون للتوصل إلى آليات علاجية مناسبة تخفّف من الأضرار ولا يمكن لها أن تمنع حصولها البتة. وفي هذا الإطار، يتم إغفال آثار شديدة السلبية لن يهتم بأبعادها وبتأثيراتها إلا من هم بحقل السياسة والقادرين على النظر بموضوعية إلى نتائج وخيمة سيكون لها آثار مدمّرة مشابهة على مستقبل أي عيشٍ مشتركٍ أو أي سعي لإعادة بناء الثقة بين المكونات السورية كافة. فما هي هذه الآثار وبم تتمثّل؟

على هامش الخيبات المتراكمة، بدءاً من عنف السلطة السورية مروراً باللجوء إلى العنف المضاد ووصولاً إلى ما يعتقده البعض إجهاضاً راديكالياً دينياً للعملية الثورية برمتها بشكل متضافر في المسؤولية مع دموية القمع، تنتشر في أوساط شبابية سورية، عربية وكردية، حالة نفور مقلق من قضايا إنسانية وأخلاقية، قضايا حق وعدالة، لطالما استغلتها سلطات بلدهم المستبدة في تأجيل الخوض في نقاش أي مسار تغيير وانفتاح. كما استخدمتها السلطات لتعزيز الآلة القمعية في إدارة شؤون البلاد الداخلية. ويتم بالتالي إنتاج وتطوير وتقاسم خطاب يبدو للبعض بأنه تصالحي مع جهات بعينها تحتل أراضي عربية وتنتهك حقوق شعبها وتستوطن أرضه وتحرق زرعه وتلوّث مياهه وتشرّد أهاليه وتعتقل مقاوميه (...). فقد تتبنّى بعض الأوساط المحسوبة على ثورة الحرية والكرامة، من خلال تطوير ردّة فعل رافضة للماضي الاستبدادي وللحاضر العنفي، خطاباً "عقلانياً" يرى، رغم اعترافه المبدئي بعدالة القضية الفلسطينية، أنه ليس معنياً بها بالقدر المطلوب "وطنياً" و "قومياً" و "دينياً". وعلى العكس، يتم الربط بتأييد البعض للقضية بالعامل الديني الإسلامي ورمزية القدس لدى المسلمين مثلاً، أو عاملٍ قومي عربي يرى في إسرائيل عداءً للعروبة وللعرب. ونتيجة لنفور ميكانيكي من الراديكالية الدينية ومن التعصب القومي، فمن الحتمي تقريباً أن يتم تحييد القضية الفلسطينية ضمن تناول الشؤون العامة. ومن جهة أخرى، فأن يقف الأمر عند نقص الاهتمام بقضية أخلاقية وإنسانية قبل أن تُصبَغَ بالبعدين القومي والديني، فلا يبدو أن ذلك يُشكّل ميلاً حتمياً إلى انتقاد شديد لحملة هذا الفكر وأصحاب هذا الموقف. بالمقابل، فقد يصل الأمر بالبعض أحياناً إلى تطوير موقف يعتبره بأنه "متقدم" و "منفتح" ليستعرض مستنكراً مثلاً مواقف بعض الدينيين وبعض القوميين من مسألة الهولوكوست معتمداً على ما يهرف به بعض جهلتهم ممن ينفون وقوعه وبالتالي، ينفون مقتل الملايين من اليهود.

تنتشر في أوساط شبابية سورية، عربية وكردية، حالة نفور مقلق من قضايا إنسانية وأخلاقية، قضايا حق وعدالة، لطالما استغلتها سلطات بلدهم المستبدة في تأجيل الخوض في نقاش أي مسار تغيير وانفتاح

لقد استهلكت الأنظمة القمعية العربية قضايا عادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. ومن تصدى بعقله وجسده للاستبداد لا يمكن أن يقع في فخ نُصب له ليصبح مبتعداً عن قضية أخلاقية ساهمت معالجتها الإقليمية والدولية في تعزيز حظوظ المستبدين وبروز التطرف الديني وفقدان الانتماء الوطني.

إن واجه مدّعو "الممانعة والمقاومة" من المستبدين وأعوانهم طالبي الحرية في سوريا بأن حراكهم مدعومٌ من قوى "إمبريالية" تحرفهم عن مواجهة الصهيونية، فلا يمكن أن يقع بعض طالبي الحرية نفسهم في موقف موازِ بنأي أنفسهم، بدرجات متفاوتة، عن القضية الفلسطينية لمجرد متاجرة مستبديهم بها طوال العقود الماضية.