المفاوضات عبر السلاح

2021.10.26 | 06:21 دمشق

24800165.jpg
+A
حجم الخط
-A

مما لا شك فيه بأن الفريق الإيراني المعني بالتفاوض مع الولايات المتحدة قد راكم قدراً كبيراً من الخبرة والحنكة عبر عقود من التفاوض مع الخصوم في عشرات القضايا، إن ديدن الأسلوب الإيراني المتبع منذ بداية استيلاء نظام الخميني على الحكم في طهران هو اختلاق قضايا جانبية على هامش الحدث الرئيسي ومن ثم ابتزاز الخصم بها للحصول على تنازل في القضية الرئيسية.. وغالباً ما تندرج تلك القضايا الجانبية تحت إطار حروب العصابات التي برعت بها طهران بشكل كبير جداً، وهنالك عشرات الأمثلة على تلك السياسة المستمرة، لم يكن أولها حوادث خطف المواطنين في بيروت من جهات غامضة و من ثم الطلب من طهران التدخل للإفراج عنهم مقابل تنازلات في الملفات الشائكة العالقة بين إيران والولايات المتحدة مثلاً،  ولا آخرها تزويد فنزويلا بالمحروقات لابتزاز واشنطن، حيث إن الجميع يعلم أن صفقة "ووتر جيت" في الثمانينات التي زودت بها الولايات المتحدة الأميركية نظام الخميني بالسلاح في حرب الخليج الأولى ضد العراق، كانت قد تعرقلت حتى تم اختطاف خمسة مواطنين غربيين في بيروت من جماعة مجهولة أطلقت على نفسها اسم (الجهاد الإسلامي) وطالبت بالإفراج عن جميع المعتقلين في إسرائيل، طبعاً لم يكن هذا هو المطلب الحقيقي لهم، بحيث إن الخاطفين أفرجوا عن الجميع حالما توصلت إيران إلى حلحلة لإيقاف السلاح الأميركي إلى طهران بأمر من الرئيس ريغان..

يتردد حالياً في أروقة المراقبين والساسة أن إيران تطالب الولايات المتحدة بحصول انفراج ما على جبهة مأرب التي تحاول الحركة الانقلابية الحوثية الدخول إليها لتأمين العاصمة صنعاء

كان هذا هو الأسلوب الأكثر اتباعاً من إيران في مواجهة تعنت الغرب عن تلبية مطالبهم، ولا يزال هذا الأسلوب سارياً حتى اليوم، ولكن الخطف لم يعد لأشخاص فقط، وإنما تعداه لخطف دول ومصائر شعوب من أجل الوصول إلى أهداف تتعلق فقط بالأمن الإيراني ومصالح النظام في طهران..

في هذه الأيام تتعرقل المفاوضات الخاصة بالملف النووي في فيينا، بسبب التشنج الإيراني الذي كلما رأى التهافت الأميركي من قبل إدارة بايدن، والإصرار من قبلهم على إتمام الاتفاق النووي بسرعة كلما أدرك المفاوضون الإيرانيون بأنه يمكنهم الحصول على تنازلات أكبر في قضايا مختلفة، يتردد حالياً في أروقة المراقبين والساسة أن إيران تطالب الولايات المتحدة بحصول انفراج ما على جبهة مأرب التي تحاول الحركة الانقلابية الحوثية الدخول إليها لتأمين العاصمة صنعاء، ولكنها تفشل، في عملية عسكرية مستمرة منذ أشهر وسط فشل ميداني كبير، لكن إيران تصر على الاستيلاء على مأرب قبل الولوج في المفاوضات من جديد، من جهة أخرى تعلم طهران علم اليقين أن حزب الله اللبناني هو أحد أهم الجيوش التي تقاتل بالنيابة عنها خارج حدودها وهي تصر إصراراً كبيراً على تمكينه من مفاتيح السلطة في بيروت، كي تحول أي اعتداء عليها إلى حرب مفتوحة بين حزب الله وأي طرف آخر يعادي مصالحه، من حزب القوات إلى تيار المستقبل أو أي طرف لبناني آخر ..

إيران تتصرف بجرأة كبيرة في الإقليم المحيط بها، وهي تضرب وتبادر من دون هوادة دفاعاً عن مصالحها المستقبلية، فها هي في مدينة مزار شريف تبدو المستفيد الوحيد من عملية تفجير مسجد للمسلمين الشيعة هناك، وهي التي تحتضن عناصر قيادية لتنظيم القاعدة، وفي الوقت نفسه تفتح حواراً جدياً مع حركة طالبان، ليس فقط الآن بل ومن جهة أخرى  تهدد الحركة التي أعيت أميركا طوال عشرين عاماً في حرب جبال و قرى، تبدو الحركة الآن في خيار مصيري فإما الاستجابة لمطالب إيران ومن يقف خلفها من روس وصينيين، وإما الدخول في حرب أهلية أفغانية يعلم الجميع كيف تدار في طهران، بعد تجارب كبيرة في بغداد وبيروت وسوريا..

ما تريده إيران في النهاية هو اعتراف دولي بنظامها واعتراف آخر بسيطرتها على الدول التابعة لها، مما يضمن لها سيرورة وهمها باستعادة أمجاد إمبراطورية زالت

تمسك إيران بخيوط اللعبة بإحكام، أو هكذا تبدو، في محاولة كسب الوقت ولعب دور البلطجي في المنطقة الذي تخشى الصين أن تخوض به حالياً، ولكنها تتقن فن المفاوضات فوق الطاولة وتحت الطاولة.. بين الأوراق وفي الميدان، ضاربة عرض الحائط بالقوانين الدولية وبمصائر شعوب المنطقة..

ما تريده إيران في النهاية هو اعتراف دولي بنظامها واعتراف آخر بسيطرتها على الدول التابعة لها، مما يضمن لها سيرورة وهمها باستعادة أمجاد إمبراطورية زالت، بالتأكيد هي لا تملك أي من مقومات الدول العظمى، ولكن يمكن بالسلاح أن تحصل على ما لا يمكن لك أن تحصل عليه بالعلوم وحقوق الإنسان، والتداول الحر للاقتصاد والسياسة والأفكار، وكلنا نعرف ماذا نطلق على الرجل الذي يفعل ذلك في الشارع..