المعتقلون السوريون على مذبح النسيان

2020.08.21 | 00:57 دمشق

almtqlwn_alswrywn.jpg
+A
حجم الخط
-A

حيثما وَجدتُ مادةً مكتوبةً ممهورةً باسمك، أعرف أنني سأقرأ عن المعتقلات والسجون.

هكذا استهلَّ صديقي حسام حديثه معي وهو محق، فأنا لا أكاد ألتفت يمنةً أو يسرة، إلّا وأجدني أسمع أصوات المعتقلين المكدسين في أقبية سجون الأسد، ولا تخلو أحلامي الليلية من تكرار ظهورهم ومرورهم بها، وهم يمسحون جراحهم التي لا تلتئم، وهم ينتظرون مع كل صوتٍ أو صدى خبراً يخرجهم من هذا العالم الأصم، الذي ماتت بين جدرانه الآمال، هذا العالم المظلم الذي لا يثقب ظلامه الطويل أدنى بصيص أمل.

تتقادم معظم الوقائع عبر الأيام، وتفقد جدتها وأهميتها وقدرتها على إثارة المشاعر، أو شحذ الهمة لبناء القضايا لمناصرتها، إلّا قضية المعتقلين والسجناء، فهي جديدةٌ في كل ثانية يصرخ فيها السجناء من الألم والمرض والجوع المنهك، وزحام الأجساد الذي يخرجهم في كثيرٍ من الأحيان عن إحساسهم بإنسانيتهم، فحتى الماشية في مرابطها تنال حظاً أوفر من فضاء المكان، والرعاية الصحية والغذائية، كيما تستمر بالحياة والنمو، أما السجناء فهم عرضة لتحمل أعتى صروف القسوة، والقهر والتعذيب والتغييب، الذي يتجاوز بآماد حدود الموت.

يصبح مجرد النجاة من التعذيب اليومي، مع كل ما يرافقه من تجويع ومرض غاية لا تدرك إلّا بالمنى والأحلام، وتصبح أصوات التعذيب اليومية وصرخات المعذبين، الإيقاع المدمر لروح السجين.

وعلى الضفاف المقابلة، يطال هذا الجحيم الثاوي بشرره، أهالي المعتقلين الذين يبذلون الغالي والنفيس، كيما يتنسموا خبراً عن ولدهم، الذي غيبته المعتقلات سنين طويلة، ويتهامسون سراً حكايات وصلتهم سراً من هنا وهناك، تحدثهم عن التعذيب اليومي، والعناء المستمر الذي يتجاوز حدود الاحتمال، ويعاند عتبات التصديق، ويجهدون باستمرار ليمسكوا بشقيقه الأصغر أو ولده البكر، كي يبتعد عن مواطن الشبهات، وعن البوح بما يعتمل في الصدور، وعن إبداء الاستياء من اعتقال شقيقه أو والده.

كما تصل شواظ هذا الجحيم، إلى عالم الأصحاب والأصدقاء، فهم بين مصدقٍ ومكذبٍ، وحائرٍ أغلق عليه الذهول منافذ العقل والتعقل، لكنهم جميعا في حالة خوفٍ يمسك بمغاليق الروح، ويجعلهم في حالة ترقبٍ مستمرٍ، لا يعرفون متى يحين دورهم ليكونوا طعاماً لهذه الرحى الدائرة التي لا تتوقف عن سحق من يواجهها.

كم من معتقل عاش معنا سنين طوالاً، وقد صدر قرار الإفراج عنه منذ عشرين سنة، لكنَّ هذه الورقة ضلت طريقها، وضاعت بين أكداس الأوراق المهملة في أدراج إدارة السجون، أو أفرع المخابرات

تقاس القضايا عموماً حسب درجات أهميتها، فبعضها يقاس بالسنوات وبعضها بالأشهر والأسابيع، إلّا قضية المعتقلين والسجناء، فإنها تقاس بالدقائق والثواني، فبين دقيقة وأخرى قد يتغير قدر السجين وحاله، وهو عرضةً في كل ثانية تمر، للقتل والفتك، وهو فوق كلِّ هذا معرضٌ للضياع والنسيان إلى زمنٍ غير معلوم، وكم من معتقل عاش معنا سنين طوالاً، وقد صدر قرار الإفراج عنه منذ عشرين سنة، لكنَّ هذه الورقة ضلت طريقها، وضاعت بين أكداس الأوراق المهملة في أدراج إدارة السجون، أو أفرع المخابرات، وحين تم اكتشافها بمحض الصدفة، لُفِّقت للسجين تهمة أخرى، تبرر استمرار سجنه طوال تلك السنين.

الزمن بالنسبة للسجين، هو تجلٍ للزمن النسبي عند أينشتاين بأقسى معانيه، فجميعنا في العصر الحديث نمتلك إحساساً تقريبياً بالزمن، يزيد وينقص حسب دقة تركيزنا، فنقدر أننا نصل إلى المكان المعين خلال ساعة، أو أننا ننتهي من قراءة صفحات محددة في نصف ساعة، بينما يختل هذا الإحساس لدى السجين، فتتطاول ثواني التعذيب أو انتظار التحقيق إلى أبعاد يصعب تقديرها، وربما يقربنا من فهم هذه التباين بين إحساسنا وإحساسه، أن نمسك بكأسٍ معدنية تحوي ماءً يغلي، أو أن نغمس رأسنا في وعاء ماءٍ، ونعد الثواني التي يمكننا فيها أن نبقي رأسنا مغموراً بالماء، ربما بهذا نستطيع إدراك كيف تمضي الثواني شديدة البطء، على من يتجرع التعذيب الوحشي بأعتى صوره، ويعيش أجواءه لسنواتٍ طوال.

فلا يصح لنا أن نعتبر السجين، أنه سجين منذ عامين، أو يومين، إنه سجين الآن، سجينٌ في كل لحظة، يعذب أو ينتظر تعذيبه أو ينظر إلى رفاقه يعذبون، أو يصغي إلى أصوات تعذيب تجري هناك خارج جدران زنزانته وتبعث الرعب في نفسه باستمرار.

حريٌّ بنا أن يرافقنا هذا الإحساس بمن يعذبون ظلماً في كلِّ ساعة، وأن يكونوا في أعلى سلم أولوياتنا، ففي كلِّ ساعة نفقد العديد منهم إلى غير رجعه، وفي كلِّ ساعة تنكسر أرواح الكثير منهم، وأشد ما يكسر تلك الأرواح إهمالنا لهم، إنَّه أشد من سياط الجلادين وأمضى أثراً.

في ليلة تدمرية لست أنساها، فقد كانت بعد يومٍ طويلٍ طويل، حافل بالكثير من صنوف التعذيب، لكن الأشد إيلاماً لنا ليلتها، كان صوت المعلق الرياضي المنبعث من تلفزيون الثكنة العسكرية المجاورة، وهو ينقل لنا أحداث مباراة رياضية تجري في دمشق، وأصوات آلاف المشجعين، بينما نموت يومياً في هذا السجن الرهيب مرة بسياط الجلادين ومرات بإهمال بني جلدتنا، وعجزهم عن سماع أصواتنا.