المعارضة وجوهر القضية السورية

2020.08.10 | 00:01 دمشق

aaahhhu32.jpg
+A
حجم الخط
-A

الصراع في سوريا ليس صراعاً على السلطة، ولا هو بين حزب حاكم وآخر معارض يريد أن يستولي على السلطة، وما هو "مؤامرة كونية" على نظام يهدد المصالح العليا للكبار ومحمياتهم؛ إنه صراع بين دكتاتورية مستعدة أن تدمّر كل شيء في سبيل أن تبقى، وشعب ينشد الحرية والعيش الكريم؛ إنه صراع بين منظومة استبدادية الطبع، احتلالية النهج، لا قدرة لديها على تحمُّل من يقول "لا"، وشعب اعتقد أنه ما زال للإنسان حقوق على هذا الكوكب... شعب ما كان ليتصور أن مصير مَن يعارض هو القتل أو الاعتقال أو التشريد.

في سوريا قامت ثورة بالمعنى الكامل للكلمة؛ قامت على نظام لم يحرجه جَلْبُ الميليشيات والاحتلال الخارجي كي يبقى، آخذاً من سوريا وشعبها رهائن، مستخدماً كل أنواع الإجرام والوحشية، متصرفاً بلا مسؤولية كغريب في بلد منكوب. فلا الاحتلال الإسرائيلي قتل من الفلسطينيين والعرب بقدر ما قتل، ولا نظام "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا ذبح من السود بقدر ما ذبح. رغم كل ذلك استمرت الثورة، وانضم إليها من انشق عن المنظومة رافضاً ممارساتها؛ كما التحق بها عناصر و"أحزاب" تقليدية، أخذت لاحقاً شكلها الرسمي وانتظمت فيما عُرف بالمجلس الوطني، ثم الائتلاف، وما تفرّع عن ذلك لاحقاً؛ ودرجت الإشارة إلى كل ذلك بالمعارضة.

هذه المعارضة بمعظمها، نتاج مجتمع حُكم من قِبَلِ نظام دكتاتوري كانت غايته الرئيسية إعادة صياغة وبرمجة عقول السوريين بطريقة تقتل نوازع الإبداع الفطري في النفس البشرية، وذلك من أجل أن يتماهى مع فكر النظام الذي يهدف إلى تحويل العقل الجمعي السوري إلى مجرد كتلة هلامية يصنع منها الأشكال التي توافق رغبته، والتي يجب عليها عبادة الفرد أو "الأخ الأكبر".

لا يختلف اثنان على أن ثمة ضعفاً يعتري المعارضة؛ ضعفاً يعود إلى أسباب ذاتية، وأخرى موضوعية:

في الذاتية، هناك قلة الخبرة، وهذا أمر طبيعي بسبب خضوع البلاد إلى حكم دكتاتوري على مدى خمسين عاماً، كانت أجهزته تُجَرّم المواطنين استناداً إلى نواياهم، حيث أدت هذه القبضة الستالينية إلى انكفاء المواطنين المعارضين على أنفسهم، مما انعكس سلباً على التيار العام المعارض. لقد عانت هذه المعارضة من تناذرات ضعاف النفوس، وشراء الذمم، والاصطفافات، والمنصات، والإقصاء، والولاءات للدول الداعمة؛ مما أدى إلى ضعف تأثيرها على الداخل السوري، إضافة إلى عدم تمكنها من استثمار الدعم الدولي لصالح الحراك الثوري بالشكل الأمثل.

وفي الأسباب الموضوعية، فإنه إضافة لانتظارها التدخل الخارجي، وعدم أخذ الاعتراف بالائتلاف مفاعيله الرسمية، ومعاناتها من العسكرة والانقسام على الذات؛ وإضافة لما فعله النظام تجاهها من تشويه؛ وما فعلته قوى وأنظمة لم تفك ارتباطها بالنظام وأمِنَت المعارضة جانبها؛ كان لموسكو الدور الأكثر تدميراً بالنسبة للمعارضة، حيث دأبت على نسف مصداقيتها: فإن هي لم تنعتها بالإرهاب، كانت لا ترى فيها أو تعاملها إلاّ كمعارضات.

كان الأخطر في كل ما تعرضت له المعارضة أنه رغم كره النظام واحتقاره لكل من يعارضه، فإنه يستعذب مساواته مع المعارضة وإسقاط معايير التقييم على كليهما بشكل متساوٍ ووضعهما في قارب واحد؛ ويُطرَب لسماع نغمة أن "النظام والمعارضة أسوأ من بعضهما البعض"؛ فهو ارتكب أبشع أنواع الجرائم بحق الأبرياء. وهنا يقع الحيف والظلم على كل مَن عارض؛ فمن ناحية، يضعه نظام الاستبداد في خانة الخيانة، لمجرد أنه تجرأ ورفع صوته بوجه الظلم؛ ومن ناحية أخرى تشبيهه بمنظومة الاستبداد التي بلغت حداً من التوحش لم يشهد له التاريخ مثيلا. يكفي أن هذه المنظومة الاستبدادية قد دفعت بأفعالها المتوحشة نصف الشعب السوري إلى الرحيل القسري والتشتت في أصقاع الأرض، وبلغت درجة من الاحتيال أنها حاولت إقناع العالم بأنها تكافح الإرهاب، في الوقت الذي استجلبت فيه كل شذاذ الآفاق بما فيها "داعش" إلى حضن الوطن ليشاركها في نهش الجسد السوري.

والآن، وفي هذا المفصل بالذات، وفي ضوء كل ما سبق، ومع استمرار استحالة الانتخابات والتمثيل الصحيح لسوريا في ضفة المعارضة، تبرز دعوات لتصحيح وضع المعارضة وإعادة إطلاقها. فهل هذا الأمر ممكن؟ هل يستطيع العطار أن يصلح ما أفسدته تسع سنين من التعثر، وما سبقها من موات سياسي؟ هل فَهْمُ وتفهيم طبيعة وجوهر الصراع في سوريا يجدي نفعاً؟ هل تستطيع المعارضة تجاوز تأثير مفاسد وهنات أضحت على الملأ، مما أدى إلى زعزعة ثقة المواطن السوري العادي بمصداقيتها؟ هل تستطيع أن تنأى بنفسها عن الخلافات السياسية بين الدول الداعمة لها وتحتفظ ببوصلتها لتحقيق أهداف الثورة في التغيير السياسي في سوريا؟ هل تستطيع تحقيق الانسجام الذاتي بين مشاربها المختلفة؟ هل يمكنها التوقف عن حرق نفسها بنفسها، وإعدامها المعنوي لكل شخص يبرز فيها؟ وأخيراً، هل يستطيع "الائتلاف"- الجسد المعارض القائم سلفاً باعتراف أكثر من مئة دولة كممثل للشعب السوري، برؤيته وانطلاقته الجديدة ودعوته إلى مؤتمر وطني شامل صحيح، أن يستوعب بعض الدعوات الفردية ويعززها لإعادة إطلاق المعارضة؟ أسئلة تجيب عنها الأشهر القليلة المقبلة؛ والأجوبة يمكن أن تشكل خارطة طريق لمشروع جديد للثورة والمعارضة، مشروع يهزم منظومة الاستبداد حقوقياً وثقافياً وأخلاقياً وقانونياً واقتصادياً واجتماعياً في ظل استحالة الحسم العسكري. أخيراً، رغم قول البعض بتشاؤم إن القادم أعظم! ولكنني أراه أعظم بالبدء بعودة سوريا إلى سكة الحياة.