المساءلة المجتمعية ووهم الحصانة

2022.08.19 | 06:21 دمشق

العدالة
+A
حجم الخط
-A

المساءلة المجتمعية هي منهجية عمل تهدف لبناء منظومة مساءلة اجتماعية لمؤسسات الحكم والسلطة والإدارة وتعتمد على انخراط قطاعات من المجتمع إلى جانب المنظمات غير الحكومية في عمليات متابعة ومراقبة قرارات وأعمال السلطة ومختلف مؤسساتها وإدارتها بهدف التأكد من اتساقها مع القانون ومع المصالح العليا للمجتمع بهدف تعزيز فرص تطوير الأداء والحوكمة والشفافية.

ويعتبر هذا المفهوم جديدا على المجتمعات العربية عموما بالنظر للطبيعة السلطوية لحكوماتها التي تتناقض تماما في طبيعة بناها السياسية مع فكرة السماح بإخضاعها للنقد والتعرية والمساءلة، لكونها على النقيض تماما من فكرة الشرعية وموجباتها الدستورية والقانونية.. فضلا عن ضعف دور المنظمات غير الحكومية – إن وجدت – بالنظر لتهميش دورها وضعف مواردها ومحاربتها وإشهار سيف العمالة للخارج في وجهها مايؤدي لانكماش ومحدودية دورها على الرغم من أنها العنصر الأساس لبناء وتعزيز فرص المساءلة المجتمعية فالمواطن في هذا النمط من الدول ليس مصدرا للشرعية ولا يجوز أن يكون كذلك.

مع ذلك ومع اضطرار تلك الحكومات لمسايرة السياق العالمي – انصياعا لضغوط خارجية أو استجابة لضرورات التنفيس المجتمعي - والسماح بوجود وعمل منظمات للمجتمع المدني ضمن مساحات عمل محدودة وقابلة للتضييق عند الحاجة، ومع وجود بعض الهوامش المتواضعة لحرية الإعلام فإنه يمكن التعويل على تطوير التجربة والتعلم على السير في حقل ألغام السلطة، وجعلها بداية لتطوير مفهوم ودور المجتمعي المدني نفسه وتوسيع نطاق مساحات عمله ليشمل في لحظة ما وضمن صيغة ما قضايا المساءلة المجتمعية وزرع بزرتها في تربة المجتمع الذي صار أكثر تقبلا وقدرة واقتناعا بإمكانيته لفعل ذلك.

لن يكون هذا المسار بطبيعة الحال سهلا ويسيرا بل هو من أصعب وأخطر الأعمال في المجتمعات العربية التي مايزال قطاع كبير منها يسبغ قداسة ويمنح حصانة لكثير من الأشخاص والمؤسسات والأفكار وبالتالي فلا يجوز من وجهة نظر هؤلاء أن يكون أصحاب (الحصانة والقداسة) عرضة للنقد والتعرية والمساءلة !.

والمشكلة الأكثر تعقيدا في هذا المشهد السوريالي أن الناس والمجتمعات ترنوا إلى تعزيز الحريات وتسعى إلى دولة القانون لكنها بالوقت نفسه تسبغ حصانة وقداسة على مختلف أوجه الحياة وما اعتادوه من أفكار تقريبا، بما يحجب حق انتقادها أو مساءلتها!.

فهناك دول ومجتمعات تسبغ قداسة وحصانة على الحاكم أو بعض مؤسسات الحكم والدولة كالجيش فلا يجوز انتقاد أداء الحاكم أو مساءلته عن فشل سياساته أو تجاوزه على القانون أو استباحته للمال العام، فارتكاب هذا الفعل (الشنيع) يسبب أذى للأمن القومي والسلامة الوطنية (!!).

وهناك دول ومجتمعات تسبغ فوق ذلك هالة القداسة وموجبات الحصانة على رجال الدين والمؤسسات الدينية فهم على صواب مهما كان مضمون أحاديثهم وندواتهم وفتاويهم وإلا فأنت كافر ملحد في الحد الأعلى أو مزدريا للأديان في الحدود الدنيا للاتهام  (!) .

وتطول قائمة القوى والأدوات المقدسة والمحصنة من الرقابة والنقد كالجيش والقضاء أو حتى السياسات الاقتصادية لأن الحديث فيها حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي (يوهن نفسية الأمة) !!.

إذا لدينا في دولنا ومجتمعاتنا قائمة طويلة من المحظورات والمؤسسات والأفراد والقوى التي تعوّق قضية الرقابة والمساءلة المجتمعية على أقوالها وأفعالها ، وستتمسك بقوة بما اكتسبته من قداسة وجذرته كقيمة مجتمعية في الوجدان الجمعي وسيروق لها بطبيعة الحال التمسك بحصانتها المتوهمة لكن الراسخة ضد أي جهد أو مسعى لسؤالها ومساءلتها عما تفعل أو تقول أو تمارس وستقاوم بشراسة قضايا الحوكمة والشفافية والمساءلة المجتمعية لكنها لن تجعلها مسألة مستحيلة ليس لأنها لا تريد ذلك بل لأنها لن تستطيع، فالمجتمعات طرأ عليها تبدلات جوهرية في الأفكار والمفاهيم وما كان محرما بموجب آراء الفقهاء مثلا ولا يجوز التفكير والتعقيب على تلك الآراء ونقدها أو نقضها لم يعد كذلك الآن فكل رأي صار ممكناً إخضاعه لسلطان العقل والتمحيص فيه وبيان مدى توافقه مع جوهر الدين أو خلاف ذلك ولم يعد رأي هؤلاء محل تسليم مطلق بلا تمحيص وتفكر.. وكذلك ما كان محرّما أو مجرّما الحديث فيه أو انتقاده قانونا لم يعد بالنسبة لهذه الأجيال محصنا من ذلك.. ولذا فمساحة ما أسبغ عليه التقديس والحصانة من النقد تتآكل مع تطور وعي المجتمعات لحقوقها وسعيها لتكريس تلك الحقوق وممارستها وهذا ما يجعل قضية الرقابة والمساءلة المجتمعية ممكنة أكثر من ذي قبل.

فلا حصانة ولا قداسة مسلّم بها مسبقا لأي شخص أو مؤسسة أو فكرة، والحصانة والقداسة ليست حقا يكتسبه الفرد لمجرد أن يرتدي عمامة أو قلنسوة أو يطلق لحية .. وهي أيضا ليست حقا لفئة من المجتمع لمجرد أن تلك الفئة ذات خاصية دينية أو وظيفية.. طالما أن قولها وفعلها وأفكارها واجتهاداتها وآرائها هو كلام وفعل وسلوك بشري، لأنه لا حصانة ولا قداسة للبشر ولا للأفكار .وعلى هذه القواعد يمكن أن يتم الاشتغال على بناء منظومة رقابة ومساءلة مجتمعية تعتمد حد الحقوق الإنسانية المعترف عليها والمقر بها دينيا وقانونيا كأساس ومعيار لموازنة سلوك وسياسات المؤسسات تجاه المجتمع ومدى انسجامها واتساقها مع حاجات ومصالح واحترام حقوق هذا المجتمع  .

لعل التدقيق في حال ما آلت إليه أحوال السوريين عموما وأحوالهم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تجعلنا ندرك مدى الحاجة والأهمية للانطلاق بقوة ودأب نحو هذا الهدف فالأحوال فيها على مختلف المستويات - التعليمية والقضائية والخدمية  والحكم المحلي والشفافية ومعرفة مقدار الموارد المالية ومصادرها وأوجه إنفاقها - ليست بخير أبدا ما يجعل حال الإنسان ينحدر بشكل متسارع ومريع ما لم تتضافر جهود الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات العامة والفعاليات المجتمعية للتأسيس لفكرة المساءلة المجتمعية وتكريسها كأجندة عمل يومية.. فالمظاهرات التي انطلقت قبل أيام ضد فكرة ارتأى المتظاهرون أنها تنتهك حقوقهم وتهدر مظلوميتهم، أثبتت مرة أخرى وستثبت دائما كما أي فعل مدني سلمي أن للناس رأي يجب أن يحترم ويؤخذ به وأنهم قوة فعل مؤثرة إذا ما أرادوا  تغيير واقعهم.