المحافظون الأتراك: إعادة ضبط التوجهات والتحالفات

2023.05.28 | 05:18 دمشق

آخر تحديث: 28.05.2023 | 05:18 دمشق

المحافظون الأتراك: إعادة ضبط التوجهات والتحالفات
+A
حجم الخط
-A

برزت بعد العام ٢٠٢٠ خريطة سياسية جديدة في تركيا، لتموضع الأحزاب التركية المحافظة في حياة البلاد السياسية، وخارج منطق سياق ما قبل العام ٢٠١٥ وما اعتادته تركيا انخرطت عدة أحزاب تركية ضمن تكتلات المعارضة التركية تحت سقف الطاولة السداسية. في حين انضمت أحزاب محافظة أخرى إلى تحالف الجمهور المؤيد لحكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مما شكّل معادلة سياسية لدى تيارات المحافظة انفرزت على المعارضة والموالاة، وفي الغالب تلك الأحزاب كانت إمّا قريبة من التوجه الحكومي بعد العام ٢٠١٠ أي "الكمالية المحافظة" أو أقل رفضاً له، وقد سبب ذلك صعوبة في تفسير وتحديد نوع الانتماء الأيديولوجي والخلافات السياساتية لدى أحزاب المحافظة بين دوافعها لدعم تحالف الأمة أو الجمهور.

تموضع جديد: بين انشقاقات وتحالفات جديدة

انحاز تيار المحافظة في المجمل بجانب حزب العدالة والتنمية خلال ٢١ عاماً من حكم الرئيس التركي أردوغان على اعتبار تمثيله للأفكار المحافظة الديمقراطية في البلاد، ومعارضاً لسياسات حزب الشعب الجمهوري التي تجسدت ضمن هذا الجانب على مدار الحياة السياسية التركية في محاربة عادات وتقاليد وممارسات دينية منها الحجاب.

حيث بقيت بعض الأحزاب كالسعادة على مسافة واحدة من الجميع، لكن شهدت تركيا بعد العام ٢٠١٦ تحالفات غير مسبوقة كانت نتاج ولادة أحزاب سياسية جديدة من جراء انشقاقات حصلت في الأحزاب المحافظة سواء باستقالة عدة قيادات سابقة في حزب العدالة والتنمية وولادة أحزاب جديدة محافظة تعتبر نفسها نموذجاً جديداً للعمل السياسي، أو استقالة فاتح أربكان من حزب السعادة الذي سبق أن قام والده نجم الدين أربكان بتأسيسه.

عقّدت تلك الخريطة السياسية الجديدة غير المعتاد عليها في تركيا من حسابات المشهد التركي الأيديولوجي وحفزت تيارات أخرى مثل اليمين واليسار للخروج عن الخط السياسي المعروف، وبدأ نسج توافقات غير مسبوقة مع الأطراف المعنية أو تشكيل مساحات جديدة للفعل السياسي مثل تلك التي قام بها بعض المنشقين من أحزاب الجيد ولاحقاً حزب النصر مما ساعد على تشكيل معارضة متمايزة تعتبر مُعارضة ليس فقط للحكومة وإنما للمعارضة نفسها.

وقد تبيّن أكثر تموضع الأحزاب الجديدة عقب توزع الأحزاب إمّا على تحالف الجمهور أو الملة المعارض خلال مرحلة التجاذبات الكبيرة، كما ساهم تراكم الخلافات داخل التيار على مدار السنوات الماضية واستغلال المعارضة بالتوازي مع تغيير خطاب الأخيرة لخطابها تجاه المحافظين الأتراك بولادة بيئة مشجعة خارج إطار احتكار تمثيل التيار، لكن تلك الأسباب لم تثنِ عن العودة لتقييم مواقف بعض الأحزاب مثل الرفاه الجديد وحزب الهدى، وضبط البوصلة المحافظة من جديد لدى تحالف الجمهور، من دون أن يلغي ذلك القدرة على التمسك برواية تمثيل التيار بجانب حزب العدالة والتنمية، خاصةً أنّ أحزاباً عديدة مثل المستقبل والدفا والسعادة يشكلون كتلة لا بأس بها داخل تحالف الأمة المعارض، وهذا ربما قلل من قدرة حزب العدالة والتنمية الاعتماد على خطاب المحافظة وحده بخصوص تمثيله للتيار لبروز ممثلين له ضمن المعارضة.

الاختلافات داخل التيار المحافظ، ساعدت المعارضة التركية على استخدام تناقضاتها لخدمة برنامجها وحملتها الانتخابية، وعززت الثقة بوعود الحزب الجمهوري حول إغلاق صفحة الإقصاء للمحافظين الأتراك واحترام ممارساتهم وحفظ حقوقهم في الدولة ولا سيما بشأن التعليم والتوظيف للمحجبات، بذات السويّة استفاد حزب العدالة والتنمية لتبرير أسباب انسحاب خصومه من المحافظين من حزبه بالتأكيد على خروجهم عن بوصلة التيار وتحالفهم مع المعارضة، وهذا بحد ذاته كان خطاباً مقبولاً لدى الحواضن الاجتماعية -بحسب لغة الأرقام- التي بالفعل عند النظر لنتيجة الانتخابات الأخيرة يبدو أنّها مقتنعة لحد كبير به، لكن بذات التوقيت لا يمكن نسيان أن المعارضة المحافظة وبصرف النظر عن النتيجة الانتخابية استطاعت الترويج لنفسها والاستثمار بالكثير من الأوراق منها حاجة تحالف الطاولة السداسية لها للتأكيد على التنوع عبر حصاد ما يزيد على ٣٠ مقعداً في البرلمان وهو رقم غير مسبوق في الحياة السياسية التركية خلال الـ ٢٠ عاماً من حكم العدالة والتنمية أي وجود معارضة محافظة رافضة لسياسات الحزب، ودخول أخرى مؤيدة له.

ذوبان الأيديولوجيا وخلاف السياسات

تصدر على مدار السنوات الماضية حزب العدالة والتنمية قائمة المدافعين عن تيار المحافظة ومتطلباتهم الاجتماعية والسياسية ضمن البرلمان التركي لامتلاكه عدد المقاعد الأكبر وغياب الأطراف الأخرى في البرلمان سوى بمقاعد خجولة مثل مقعد حزب السعادة. في المعادلة الراهنة ستكون ملفات المحافظة متداولة في البرلمان على طاولة المعارضة والموالاة بعد حصاد عدد جيد من المقاعد، وربما ستكون محلاً للمنافسة من أجل إقناع الناخبين وتوسيع القواعد الشعبية، وفي الغالب تبقى الأنظار نحو التيار ككل على اعتبار أنّه نجح بحصاد عدد ٣٠٩ معقد في البرلمان من أصل ٦٠٠ مقعد أي ٥٠+١ بينما خسر الحزب الجمهوري ٢٣٪ من عدد مقاعده لصالح المحافظين. لكنها بذات التوقيت قد تكون مكاناً للتكامل أكثر من المنافسة في البرلمان رغم كل الاختلافات.

إنّ التفاوت في التوجهات لدى الأحزاب، هي ما دون أيديولوجي وفي الغالب "سياساتي" أي يرتكز على السياسات العامة متجسدةً في ٣ عوامل، العامل الأول: نمط الحكم في تركيا حيث يرفض تيار المعارضة الاستمرار في النظام الرئاسي ويطالب بالعودة إلى النظام البرلماني متماهياً في الطرح مع تيار اليسار التركي سواء كان بجانه الراديكالي أو الوسط أي حزب الشعب أو الشعوب كذلك حزب الجيد والليبرالي على اختلاف ثقل تلك التيارات والأحزاب.

أمّا العامل الثاني: الملف الإقليمي الخاص بالتعامل مع التدخل خارج الحدود أو تنفيذ عمليات عسكرية مختلفة في سوريا وأذربيجان بالإضافة لتبني سياسة الحياد الإيجابي وتطوير العلاقات مع روسيا على حساب الولايات المتحدة الأميركية، إذ ترفض "المعارضة المحافظة" تلك التوجهات وتطالب بالعودة إلى السياسات القديمة من خلال تعزيز العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وأميركيا، وتصفير المشكلات الإقليمية مع الفاعلين.  بينما العامل الثالث: مرتبط بملف اللجوء الذي يعتبر الأكثر تعقيداً وربما هو محل توافق لحد كبير لدى تيار المحافظة فأحزاب المستقبل والدفا من المعارضة يرفضون إعادة اللاجئين بشكل قسري وهنا لا يتقاطع مع طرح أحزاب الجيد والجمهوري. تترك تلك التفسيرات أن نوع الخلافات تجاوز التوجهات الفكرية النظرية، حيث بات من الواضح أنّ تركيبة الحياة السياسية التركية الجديدة بعد العام ٢٠٢٣ مختلفة عمّا كانت عليه، وبصرف النظر عن التحالفات وماهيتها، وخلافات التيار المحافظ الكثيرة وتوزعها على التحالفات الموالية والمعارضة يمكن القول هناك صعود لتيار المحافظة في الحياة السياسية التركية وفي الغالب جاء ذلك على خلفية قراءة ديناميات الحياة الحزبية وتحدياتها والاستثمار بها جيداً، وربما جزء من تفسير هذا الصعود الانشقاقات بين العام ٢٠١٥-٢٠٢٢ ومن ثم تشجّع بعض الشخصيات لامتلاك زمام المبادرة وتشكيل الأحزاب. ولكن العامل الأهم هو ما وفره النظام السياسي التركي بعد تخفيض العتبة الانتخابية لـ٧ ٪ مما رفع قابلية الأحزاب الصغيرة.

خاتمة

الثابت في المعادلة التركية صعوبة تفكيك التيار والحكم على تماهي أفكاره الأيديولوجية لكن عند الوقوف عند أهم الملفات الحاضرة في الملفات فهي في غالبيتها ترتكز على جانب السياسات، دون القفز على خلافات التوجهات لكنها تبقى ضمن إطار المقبول حتّى الحادة منها اليسارية لا تصل لدرجة الخروج عن الأطر الحاكمة للتيار في تركيا التي تتلخص: انتماء تركيا للعالم الإسلامي، رفض التمييز والمنع في دوائر الدولة، رفض سياسة الحزب الواحد، حفظ وصون التراث العثماني. إمّا عن ثقل الأحزاب في التيار فيجدر لفت الانتباه نحو استمرار امتلاك حزب العدالة والتنمية أكبر الحواضن الشعبية بعدما منحت حواضن التيار الحزب في انتخابات العام ٢٠٢٣ قرابة ٢٦٦ مقعدا في البرلمان أي ما يعدل ٨٦٪ من مجمل حجم التيار على الصعيد البرلماني، بينما لا يزال الرئيس التركي يحظى بقبول شعبي كبير من خلال تصدره الانتخابات الرئاسية الماضية بـ ٤٩،٥٪ من مجمل عدد الأصوات، وترجيح فوزه في جولة الإعادة بولاية رئاسية جديدة.