المجد للقبيلة الموت للوطن

2022.01.12 | 05:06 دمشق

albqart.png
+A
حجم الخط
-A

في مسجد صغير بمدينة الباب، قال الشيخ من على منبره، خلال خطبة الجمعة: "إن الله جعلنا شعوباً وقبائل، فلماذا يستنكر بعض العلمانيين تشكيل مجالس للشيوخ والعشائر وللإخوة التركمان والأكراد؟ يتبجح العلمانيون بأن هذه الأمور ترسيخ لانتماءات ما دون وطنية! هاتوا لي آية واحدة من القرآن ذكرت الوطن. بل سأقبلها حتى لو من الإنجيل أو التوراة". هكذا إذاً، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف. ويجب علينا العودة إلى القبيلة، والابتعاد عن المفاهيم المرذولة كمفهوم الوطن، حسب شيخنا. وطنٌ لا يوجد له أي سند شرعي في أي من الكتب السماوية.

الأيديولوجيا الحاكمة أراحتني من توقع أي حضور للمرأة. للتندّر، تساءلت ألا يمكن إيجاد إذنٍ شرعيٍ لها لتحضرَ في لافتةٍ تنوبُ عنها بالوكالة

بعد حفل افتتاح ما سُمي طريق إدلب سرمدا شمال غرب سوريا قبل عدة أيام، كنت أتابع الصور التي نُشرت على المواقع ووسائل التواصل. تأمّلتها كثيراً، ليس تمعّناً لمعرفة الحاضرين، فالصفُّ الأوّلُ وجوهٌ مطروقة إعلامياً للمتابع، بينما ضم الصفُّ الأخيرُ مرافقةً أمنية، تشي بمهمتهم كثرةُ تلفّتهم بكل اتجاه. في الداخل، أثارت صورةُ "الفاتح" للطريق لغطاً طريفاً بسبب فشل الصورة بإظهار أُذني الأمير. تندّر الناس في جلساتهم عن سبب غياب الأذنين. مما قالوه أنه لم يعد يسمعُ إلا صوته، فضمرت أذناه. في الصور، كان هناك مسؤولون صوريّون من حكومة الإنقاذ، وشيوخُ قبائل، وأعيانٌ ووجهاء مدنٍ وبلدات وقرى، تجارٌ وكبارُ مُلّاكٍ وسماسرة. بينما غاب أصحابُ المحال التجارية الواقعة على جانبي المشروع العظيم، رغم أنهم دفعوا الكلفة كاملة، حسب العارفين. لم يكن هناك ممثلو نقابات ولا اتحادات ولا أحزاب، ولا بعضُ أطفالٍ بزيٍّ رياضيّ يحمل ألوان (الوطن). الأيديولوجيا الحاكمة أراحتني من توقع أي حضور للمرأة. للتندّر، تساءلت ألا يمكن إيجاد إذنٍ شرعيٍ لها لتحضرَ في لافتةٍ تنوبُ عنها بالوكالة، فبالأصالة حرام، كما يعلم الجميع. أيضاً غاب عن الصور كل رمز يمكن أن يمثل الثورة، وحتى أي تمثيل لذوي الشهداء والمعتقلين والمغيبين في افتتاح الطريق الذي سيوصل إلى دمشق! دمشق؟ نعم، هكذا قال إعلاميٌّ يدور في فلك تحرير الشام خلال نقله للحدث: "هذه بداية الطريق إلى حلب ثمّ إلى دمشق"! إذاً طريق دمشق صار أيضاً التفافياً، تماماً كطريق القدس لدى جماعة المقاومة والممانعة.

في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام ألفين وسبعة عشر، عُقد المؤتمرُ الأول للقبائل في قرية "كفر هند" القريبة من مدينة سلقين شمال محافظة إدلب. حضر المؤتمر شيوخ ووجهاء عدة قبائل، وحضر ممثلون عن هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام ونور الدين زنكي، بل كانوا أول الحاضرين، فهم الجهة المنظمة والداعية. أكد المنظمون في كلماتهم اتفاقهم على ضرورة أن تعود القبائل لتلعب دورها في شحذ الهمم، وطالبوا بأن يتشكل مجلس شورى لكل قبيلة وعشيرة. في أيار/مايو من العام الماضي 2021 عُقد مؤتمر عام للقبائل في مدينة اعزاز شمال حلب، حضرهُ ذات الشيوخ والوجهاء، لكنّ المنظّمين هذه المرة كانوا قيادات من فرقة الحمزة (الحمزات) وفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات)، وفرقة السلطان مراد وفيلق الشام والجبهة الشامية وأحرار الشرقية. من تابع المؤتمرين سيكتشف بأن الأوراق التي قرأها المتحدثون هي ذاتها في اللقاءين. هنا أيضاً أكد المنظمون على ضرورة عودة القبيلة لتلعب دورها الجامع والمحفز والمثير للحمية!

بين كفر هند واعزاز عُقدت عشرات المؤتمرات والمآدب والجلسات لشيوخ القبائل والعشائر، وفي ذات الزمن والسياق أقيمت مؤتمراتٌ لوجهاء وأعيان البلدات والمدن. آخرها تمّ في شهر آب/أغسطس من العام الماضي في "مسبح بيسان" على طريق إدلب معرة مصرين، حضره (أعيان ووجهاء) يمثلون حلب ودمشق وحمص وحوران وإدلب. أحد الوجهاء، وهو مقرب من تحرير الشام، قال في كلمته: "اللي مالو كبير يشتريلو كبير"، وهل هناك أكبر من الهيئة؟. ولم يغب ذات الشيوخ والوجهاء والأعيان والأغوات، عن مؤتمرات عقدت في تركيا. حضر معهم أيضاً ممثلون عن قبائل وعشائر التركمان والأكراد في الشمال السوري. بعض تلك الاجتماعات تبارك بحضور ممثلين عن مجلس علماء الشام.

قبل عدة شهور، خلال تواصلي مع بعض نشطاء الداخل، علمتُ نيتهم تشكيل تجمع ثوري يضم أكثر من مئتين وخمسين شاباً وصبية. استطاعوا في عدة جلسات جرت فيزيائيا في إدلب وحزانو وسرمدا أن يضعوا نظاماً داخلياً، لا يزال مسودةً ورقية حتى الآن، رغم إجماعهم على رؤاه وبنوده. في مقدمة هذه الرؤى عبارة بدت لي تختصر رؤيتهم لبلدهم: "الوطنُ أكثر سعة من قبيلة وقرية وفصيل عسكري". تواصل هؤلاء مع عدة جهات سورية في (الداخل المحرر) والخارج، كمقدمة للإعلان عن أنفسهم. لم يعبأ بهم أحد، بل فارَ التنّور طوفاناً من التشكيك وإشارات الاستفهام. من هؤلاء؟ من يدعمهم، وما هي أجندة هذا الداعم؟ وعن أي وطن يتحدث هؤلاء الأولاد! لأنّ الشيء بالشيء يُذكر، وعلى سيرة الدعم، فقد أخبرني أحد هؤلاء الشباب قبل فترة قصيرة، أنهم تمكنوا أخيراً من سداد ثمن 100 علم ثورة، كانوا قد خاطوها لدى صاحب مشغل في مدينة إدلب. من باب وجوب الشكر، ذكر لي أن صاحب المشغل كان نبيلاً فلم يلحّ عليهم بالسداد، بل انتظرهم حتى قبضوا رواتبهم جامعين المبلغ، وهو مئتا دولار أميركي، وزاد في نبل الرجل أن حسم لهم ثمانين ليرة تركية هي ثمن ثلاثة أعلام ستنوب عنه وعن زوجته وطفلته في حضور أي فعالية قادمة.

لم تعد كلمة مواطن ترد في أي محفل وكذلك كلمة وطن، باستثناء مسمى الجيش الوطني الذي أوغل عدد من قادته ومنسبيه في الفساد وتجارة السلاح والمخدرات

أتابع منذ أكثر من عام، محاولات دؤوبة قام بها بعض الفنانين لتأسيس نقابة تجمعهم وتنظم وجودهم وعملهم. أعاقهم عن سعيهم وجود حكومتين ودولتين. كان عليهم أن يستصدروا من كليهما رُخصاً وموافقات تسهّل وتشرعن نشاطاتهم المزمعة. كلا الحكومتين (الإنقاذ والمؤقتة) كانت تصرُّ على التابعية الحصرية للنقابة، وإلا فلا رُخَص ولا سماح ولا إذن. ليست طرفة أن هؤلاء يفكرون حالياً بتشكيل نقابتين مستقلتين ضمن اتحاد فدرالي يجمع بين اعزاز المؤقتة وإنقاذ إدلب.

لم تعد كلمة مواطن ترد في أي محفل وكذلك كلمة وطن، باستثناء مسمى الجيش الوطني الذي أوغل عدد من قادته ومنسبيه في الفساد وتجارة السلاح والمخدرات. جيش يضم فصائل ترفع على حواجزها ومقارها أعلاما كثيرة، غالباً ليس من بينها علم الوطن، وإن وُجد فاللافت صغرُ مساحته، وتأخره عن الصف الأول بين بقية الرايات. حال أعلام المقرات كحال العلم المرفوع على مقر وزارة الدفاع على طريق عفرين كفرجنة شمال حلب. علمٌ صغيرٌ وحيد مهجور، كحال الوزير الذي يقوم أحياناً بزيارات خاطفة لوزارته.

عند خروج الشيخ المستنكر لمفردة (وطن) من المسجد في "الباب"، قطع طريقه شاب يبدو أن خطبة الشيخ لم تعجبه، ليذكّره أن "كلمة شيخ أيضاً لم ترد في القرآن، إلا بمعنى الرجل المسن، وكذلك لم يرد في القرآن ولا في الإنجيل ذكرٌ للمرشد العام ولا لفقه المرحلة". غير بعيد عن نقاش الشيخ وابن هذا الوطن القصيّ، كانت تتجمّعُ مظاهرةٌ خجولةٌ في عددها وعدّتها باستثناء مكبر للصوت يؤكد للعابرين أن الوطن جنّة... بل حتى ناره جنّة.

الانتماء للقبيلة أو العرق أو الدين وحتى الطائفة، أمر لا يمكن إنكاره على أي أحد، لكنه في الدولة الحديثة يأتي تالياً. الانتماء الوطني هو الأول دائماً، ولا يمكن أن يكون في موضع تبادلي مع أي انتماء آخر. في تهديم هذا الانتماء الذي يفترض أنه بديهي، لا يختلف الحال في مناطق النظام عنه في مناطق الشمال غربه وشرقه. كأن الجميع في مسابقة لاستكمال ما بدأه الأسد الأب حين ذرَر إحساس السوريين بالمواطنة، ثم تبعه وريثه ليطحن هذا الإحساس مع تدميره وتفتيته لكامل سوريا. اليوم، يتابع الخارجون عن سيطرة الأسد بأمانة شديدة، العمل على هدي الأسدين الأب والابن. تحت راية محاربة العلمانية، ينسف "أمراء الشمال" أبسط الجوامع الوطنية التي يعول عليها لبناء سوريا القادمة، كما حلم بها الشباب السوريون عام 2011. والآن، هل هناك بقيّة أمل؟ للأسف ليس لدي اليوم أي جواب، لكن إلى أن يصبح لجيل الشباب قدرة وفضاء حر للتعبير عن وطن يحلمون به، فيصوغون ما ينسف كل هذا الركام، فسوف تبقى الغلبة لتلك الأصوات. أصواتٌ تنمّ أكثر ما تنمّ عن كارثية استيلاد التخلف المستدام. لا أعرف أين قرأت المثل التالي، لكنه أفريقي على ما أذكر: "إلى أن يتعلّم الغزال الكتابة، ستبقى جميع القصص تُمجِّد الصيّاد".