الماغوط عن "خرفان بيك" نسخة الشمال (المُحرَّر)

2021.12.07 | 05:22 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

خمسون شابّة "صبيّة" متسوّلة  تقريباً موجودات ضمن مسافة لا تتجاوز الكيلومتر الواحد. يومياً بين الثامنة صباحاً ومغيب الشمس، ستصادفهنَّ يتبادلن المواقع ما بين دوّار الكرة وتقاطع شارع الجلاء مع سوق الصاغة، مروراً بساحة الساعة، مركز مدينة إدلب. مثل هذا العدد أو ينقص قليلاً ستجده أيضاً في مدينة "الباب"، في الطريق المتجهة شرقاً من حديقة السنتر إلى مدخل سوق المدينة القديم، وكذا في اعزاز والدانا وحارم وجرابلس. يتبع لهؤلاء النساء عشرات الأطفال، منهم من يتلفّظون بكلام بذيء بحق كلِّ من يتمنعُ عن الدفع. حين يجتمع عدد من هؤلاء الأطفال مع إحدى تلك النساء على الرصيف ساعة الغداء، لمعرفة محصول اليوم، سيصبح من الواضح أننا أمام حالة تسوّلٍ منظم، انتقل من دافع الحاجة إلى احتراف المهنة.

بحسب أحدث تقارير الأمم المتحدة، مليونان وثمانمئة ألف سوري في شمال وشمال غربي سوريا "يعتمدون في معيشتهم على المساعدات الأممية" غذائياً وصحّياً. "يعتمدون" هو التعبير الملطّف الذي تستخدمه تلك التقارير. طبعاً لا يوجد إحصاء دقيق لنوع آخر ممن يعتمدون في معيشتهم على المساعدات، عبر الحوالات المالية الشهرية، من الأقارب والأصدقاء المنتشرين في أوروبا ودول الخليج وكندا وأميركا، لكنّ طوابير شركات التحويل في الباب واعزاز وإدلب والدانا تعطينا تصوّراً عن أعداد هذه الشريحة الواسعة.

بجانب حشد المتسولين، هناك مئات اللصوص الذين ما عادوا يلجؤون لخفّة اليد، بل قد يسلبون امرأةً حقيبة يدها فتقع أرضاً. وقد يسلبون رجلاً هاتفه المحمول أثناء تحدثه به، ليقطع اتصاله صوت دراجة نارية تبتعدُ مسرعةً بما سلبت. في منطقة سيطرة هيئة تحرير الشام وحدها ثمانية سجون معروفة، وعدة سجون سرية، لا إحصائية دقيقة بعددها. أشهر تلك السجون (الأمن العام، الـ107، سجن شركة الكهرباء والسجن القديم) في مدينة إدلب. بالإضافة إلى سجن القلعة في حارم، وسجن قضاء سلقين وسجن القلعة في دارة عزة. ويبقى أشهر سجون الهيئة ذاك الواقع في جبال سرمدا (سجنُ الجبل) السيئ الصيت، وجاء بديلاً لسجن "العقاب" الشهير الذي تمَّ إخلاؤه حين سيطرت قوات الأسد على جزء من جبل الزاوية، خلال حملتها قبل عامين.

أخبرني أحد الأصدقاء الشباب، وكان أوقف في سجن شركة الكهرباء، بسبب منشور على فيس بوك، أنه اجتمع هناك بعدد كبير من اللصوص، الذين يشكلون ثلاثة أرباع عدد الموقوفين بحسب تقديره، للغرابة كانوا جميعاً مطمئنين لطبيعة جريمتهم: "المهم ما تكون داعشي، أو مخبر للنظام أو حاكي عالإخوة. الباقي كله سهل، سرقة، دعارة، مخدرات بتطلع" قال له أحد هؤلاء. والإخوة هي التسمية المعروفة لأمراء هيئة تحرير الشام. إنهم الخطُّ الأحمر الوحيد، في حين يستطيع أيُّ شخص انتقاد وزراء ومسؤولي حكومة الإنقاذ التي جعلها الجولاني "متنفّس ديمقراطي" بحسب التعابير المعاصرة، "مَشلَح زفر" بحسب التعابير المحلّية.

مناطق شمال شرقي سوريا لا تختلف كثيراً خصوصاً لجهة التسوّل، أما حال مناطق سيطرة الأسد فحدّث ولا حرج، فكل مظاهر البؤس والتسوّل والسرقة والفساد والجريمة المنظمة تحتشد هناك

لا تشكِّلُ "الصبايا" المتسوّلات في الأسواق خطراً اجتماعياً مستقبلياً كبيراً، كالذي تنبئ به الأخريات المنتشرات في الحدائق العامة كالمتنزه العام في إدلب (الباسل سابقاً)، وحديقة (الأمة العثمانية) في اعزاز، ومتسوّلات كورنيش سلقين، أو البقية المنتشرة على الدروب بين المدن والبلدات، فالصفقةُ لم تعد هنا مبلغاً صغيراً مقابل دعاءٍ بالخير، بل تفاوضٌ سريع يتبعُهُ ما يعلمه الجميع، بعد أن صار الزواجُ فكرةً مستبعدة، في مجتمعٍ بلغت فيه المهور خمسة آلاف دولار يطلبها والد الفتاة من شاب لا يتجاوز دخله اليومي ثلاثة أو أربعة دولارات في أحسن الأحوال. طبعاً حال مناطق شمال شرقي سوريا لا تختلف كثيراً خصوصاً لجهة التسوّل، أما حال مناطق سيطرة الأسد فحدّث ولا حرج، فكل مظاهر البؤس والتسوّل والسرقة والفساد والجريمة المنظمة تحتشد هناك. "إذا حكيتْ، بتقولوا عم تسبّ الثورة". كم كانَ الشاعر الماغوط متبصّراً حين خطَّ هذه العبارة. وَرَد قوله هذا في مسرحية غربة على لسان الحجة "ضمير وختيارة الضيعة" التي ولّدت كل نساء القرية. "الحجة" كانت تتحدث عن المتسلقين والمنتفعين من (الثورة).

طبقتان تعيشان اليوم في هذا "المحرر". طبقة المتسولين، مع اختلاف شكل وآلية التسول، تقابلها طبقةُ أمراء الحرب وتجارها، أمّا الأعدادُ القليلة من صغار المُلّاك وموظفي المنظمات والحرفيين، فهي استثناء لا يفتّ في عضد الطبقتين الحصريتين. "ش" مهاجرٌ أوزبكيٌ من أمراء هيئة تحرير الشام، جاء مجاهداً لنصرة أهل الشام، وكما يعلم الجميع فهو "ما جاء إلا لنصرة هذا الدين"، يملكُ اليوم "مطعم  KFC، ركن الشوكولا ومحل بيع ألعاب أطفال" في مدينة إدلب، إضافة إلى شراكته في استثمار المتنزه العام. أما خارج المدينة، فيملك "ش" محطة وقود على طريق سرمدا الدانا، ومولاً ضخماً "بمقاييس المنطقة" قربها، بالإضافة إلى فرن ومطعم خاص بالطعام الأوزبكي. "ش" ليس طفرةً ولا هو بالأكثر تملّكاً من أمراء آخرين ومتنفذين في الهيئة، أو قادة فصائل. كلُّ مفاصل الاقتصاد في (المحرر)، مملوكة لأمراء وقادة فصائل في الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام، بينما تحوّل ملايين الناس إلى جيش من المتسولين على مائدة المنظمات الدولية، وفي الأسواق والطرقات.

على الغالبية المسحوقة أن تقبل بالأدوية المجانية التي انتهت أو قاربت مدة صلاحيتها، وليس تأمين هذه الأدوية بالأمر السهل. يكفي المرور بالقرب من "صيدلية آية الخيرية" في مدينة إدلب، لرؤية الطابور الطويل من مرضى عزّ عليهم ثمن دوائهم، أو دواء أطفالهم. طوابير الخبز المدعوم، هبةً من مجلس شورى الجولانيّ، لا تختلف كثيراً عن الطوابير المنتظرة على أبواب شركة الحوالات PTT الموجودة في عفرين والباب واعزاز وجرابلس وجنديرس، ومثلها على أبواب فروع شركات التحويلات المالية الخاصة، وأطول منها طوابير تصطفّ أمام شاحنات تتبع لمنظمة إغاثية في أحد المخيمات. في وطن الطوابير المحرر هذا، انتشرت حبوب "الكابتيكول" علناً، ولم يعد تعاطيه عيباً أو سبّةً، والتبرّمُ من غلاء سعر الحبّة يُصرّحُ به في الجلسات المفتوحة. سعر الحبّة من  النوع الجيد "ليكزس بلغاري" خمس ليرات، بعد أن كانت بثلاث ليرات تركية بسعر المفرّق وبليرتين بسعر الجملة، مع تفاؤل بانخفاض سعره، وسعر الحشيش بعد دخول بضائع حزب الله إلى سوق "المحرَّر". ليس الكابتيكول البقاعي بجودة القادم من شرق أوروبا، ولا الحشيش البعلبكي ندّاً للأفغاني والهندي، ولكن المساهمة اللبنانية كانت فعّالة في كسر أسعار الأوروبيين والآسيويين.

قبل شهر اختفى أحمد من مخيمات أطمه، وأحمد شاب صغير متفوق في دراسته الثانوية. قبله اختفت طفلة بعمر أحد عشر عاماً من مخيمات "سجو"، القريبة من اعزاز، وبينهما اختفت طفلة من عفرين. يتهمُ العامةُ تجار الأعضاء البشرية وتجار الأطفال بحالات الاختطاف تلك، لكنّها تبقى تخمينات في بلد تعددت فيه مسببات الاختفاء، فقد يُعثر على المختفي بعد فترة مقتولاً أثناء محاولته العبور بطريقة غير شرعية إلى تركيا، أو يصل خبر لذويه يفيد بأنه في أحد سجون الفصائل السرية. لا شيء مستغرب، فمن طبيعة الأمور أن يحدث كل هذا، في منطقة تفتقر إلى نزاهة المنظومة القانونية من قضاء وأجهزة شرطة.

كيف سيقبل أمراء الهيئة وقادة الفصائل بحلٍّ يعيد كل شخص إلى حجمه الطبيعي، وكيف سيقبل الأوزبكي "ش" بحلٍّ يحرمهُ من فردوسه السوريّ؟

لا تنتصر القضايا العادلة بالصمت عن الظلم والجريمة وسوء الأحوال العامة. فمصير الناس ونقلهم إلى حالة أفضل هي غاية الثورات. حين تغيب العدالة والحرية والقانون، وتنتهك الكرامة ويتسول الأطفال والنساء، ويكتفي الجميع بالصمت حفاظاً على سمعة الثورة والمحرر، وتحاشياً لشماتة نظام الأسد وحاضنته، حين يحدث ذلك، ستصبح القضية العادلة برمّتها شعاراً فارغاً. إذا كان أمراءُ الحرب وقادة الفصائل  جزءاً من الحلّ في سوريا، ويقابلهم رأس النظام وضباطه وزعماء ميليشياته ومافياته كجزء آخر، إذاً فليس هناك حلٌّ في المدى المنظور، وعلى أي حلٍّ مأمول السلام. هل لعاقل أن يتصور، كيف سيقبل أمراء الهيئة وقادة الفصائل بحلٍّ يعيد كل شخص إلى حجمه الطبيعي، وكيف سيقبل الأوزبكي "ش" بحلٍّ يحرمهُ من فردوسه السوريّ؟

ما دام الحديث هنا عن التسوّل، واستجداءً مني لأملٍ ما أتوسله، سأعود للماغوط. ردّاً على استنكار "الحجة" أفعاله، حين أكّدت أنّها هي من ولّدته قليل الأصل هذا "البيك الثوري الجديد خرفان"، المنتفع من الثورة والاشتراكية، سيجيبها أستاذ المدرسة: "وولّدتي ناس طيبين يا حجّة، وبعدهن متل ما ربّيتيهن، والثورة مو ملك خرفان". مع ذلك، نعم يا "حجّة"، إنه خرفان اللعين ذاته، تسلَّق الاشتراكية بالأمس، ويتسلَّق الشريعة اليوم.