"الماضوية" بديلاً عن الشعبوية

2021.05.28 | 05:50 دمشق

76abaafd-663b-4c8a-af9d-0fde94d1d5d0_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، يتكرر الحديث في أوساط السوريين وسواهم عن افتقار الحالة السورية إلى قوى سياسية فاعلة ومتجذّرة في الوسط الشعبي السوري، مما جعل الحراك الثوري يسير يتيماً دون موجّهٍ أو ضابط لمفاصله وسيرورته، بل ربما كان هذا الغياب للقوى السياسية الفاعلة سبباً في غياب قيادة لثورة السوريين، تنبثق من خياراتهم وتحظى بقبولهم، وتستمد شرعيتها من قدرتها على تجسيد تطلعاتهم. ومهما تعددت أسباب هذا الغياب للحضور السياسي الفاعل في المشهد السوري المعارض، فإن السبب الذي يُجمع عليه كثيرون هو عقود الاستبداد الطويلة المقرونة بالتوحّش السلطوي ضد المجتمع، والتي أسهمت في تجفيف السياسة بمعناها الفعلي، بل جعلت أيّ نشاط سياسي للمواطنين خارج الأطر السلطوية ضرباً من الممارسة الإجرامية التي توجب أقسى درجات العقوبة.

إلّا أن ثمّة إجماع من نوع آخر يشيع بين كثير من السوريين حول سؤال يمكن أن يفضي إلى تساؤلات عديدة أخرى: عقدٌ من الزمن من عمر الثورة ألم يكن كفيلاً بإفراز نخب سياسية سورية جديدة قادرة على استعادة زمام المبادرة ولو نسبياً؟ ثم ماذا نسمي المئات، بل الآلاف من السوريين الذين نرى قسماً منهم يتصدرون المشهد الرسمي في كيانات المعارضة، فيما نرى أضعافهم يتوزعون في تجمعات وأحزاب وتيارات ومنصات ومراكز دراسات، فضلاً عن حراك غزير جداً على مستوى الندوات والحوارات إلى درجة أن المرء لا يجد ما يكفي من الوقت لمتابعة جزء مما يجري من محاضرات وندوات على منصات التواصل، ماذا نسمّي هذا الضرب من النشاط الفكري والثقافي؟ بل ماذا نسمي القائمين على هذا الحراك الحيوي بالفعل؟ أليس هؤلاء سوريين من شرائح مختلفة، أكاديمية وغير أكاديمية، ومنهم من لديه اختصاصات علمية على درجة من الأهمية، ومنهم من لديه خبرات حقوقية ودبلوماسية، بل منهم أيضاً من يمتلك شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية، بل يكفي المرء أن يتابع بعض الحوارات والندوات التي تجريها بعض المنصات أو مراكز الدراسات، ليجد بالفعل حضوراً معرفياً وثقافياً على درجة كبيرة من الأهمية، أليس هؤلاء هم النخب؟ وإلّا فمن تكون النخب؟ هل تهبط من السماء؟ أم تُستورد من عوالم أخرى؟

في محاولة أوليّة لتتبّع المسارات العملية التي تسلكها النخب السورية التي تُعنى بالشأن العام، يمكن الوقوف بإيجاز شديد عند نموذجين اثنين، يتمثل النموذج الأول في معظم الأشخاص الذين تموضعوا في الكيانات الرسمية للمعارضة ( مجلس وطني – ائتلاف – هيئة تفاوض – لجنة دستورية – حكومات مؤقته إلخ)، معظم هؤلاء، ومع تعاقب السنوات، أصبح ارتباطهم بتلك الكيانات أقوى بكثير من ارتباطهم بالقضية السورية، نظراً لكون معظم هذه الكيانات صنيعاً خارجياً أسهمت دولٌ بعينها في إنشائها ودعمها والحفاظ على استمراريتها، ولم تكن مُنجزاً محليّاً منبثقاً من إرادة السوريين، وبالتالي فإن الأولوية المنوطة بها هي التماهي مع توجّهات الجهات التي أنشأتها ورعتها وما تزال تدعمها وتحافظ على استمراريتها أولاً، ثم الحفاظ على المصالح الشخصية للقائمين على تلك الكيانات ثانياً، وبهذا يكون هذا النموذج قد حسم أمره بالتزامه بالدور الوظيفي الذي ارتضاه، بل لديه من استعداد كبير للدفاع عن هذا الدور الذي أصبح هو القضية الجوهرية بالنسبة إليه.

ويتمثّل النموذج الثاني بأعداد غفيرة من المثقفين والسياسيين وأكاديميين ورجال الدين وحقوقيين وأدباء وأطباء وضباط إلخ، ومن هؤلاء من ينتمي إلى أحزاب وتيارات أو تجمعات سياسية أو فكرية، ومنهم من هو خارج أي إطار، إلّا أن السمة المشتركة بينهم هي اهتمامهم المستمر بالشأن العام السوري ومواظبتهم على الحركة والعمل، وسعيهم الدائم إلى أن تبقى القضية السورية حاضرة بالرغم من قسوة الواقع، أضف إلى ذلك حيازتهم على مستويات معرفية جيدة، وإنْ كلٌ حسب اختصاصه وميوله، فضلاً عن ثوابت مشتركة يبديها الجميع حول ضرورة العمل لاستعادة المبادرة الوطنية والحفاظ على ثوابت الثورة، والدفاع عن الوجه الناصع لانتفاضة السوريين إلخ، وذلك من خلال رؤى وتصوّرات تستلهم قيم الحداثة والديمقراطية ومعظم المضامين العامة للدولة الحديثة. وهم بذلك، يجسّدون بالفعل – من الجانب النظري – شريحة واسعة من النخب السورية التي تسعى نحو التغيير، رافضةً في الوقت ذاته مجمل المآلات الراهنة – العسكرية والسياسية – التي أفرزها مسار عشر سنوات من عمر الثورة.

لقد دأب أصحاب هذا النموذج منذ سنوات على حراك ثقافي وفكري وسياسي لم ينقطع، وربما ازدادت وتيرة هذا الحراك بعد تفشّي جائحة كورونا التي جعلت من وسائل التواصل الأخرى كبرامج (الزوم وواتساب وسواها ) هي المجال المتاح لعقد اللقاءات وإقامة الندوات والحوارات وورشات العمل، كما تنبغي الإشارة إلى أن الموضوعات والعناوين المطروحة في تلك الندوات هي في غاية الأهمية، ولكنّ المشكلة الأهم – فيما يذهب الظن – إنما تكمن في طبيعة الحوارات وطريقة التعاطي مع الموضوعات، أي أن المشكلة تكمن في مقاربة الموضوعات وليس في الموضوعات ذاتها، وبعيداً عن أي تأطير نظري لهذه المشكلة، فإنه يمكن تلمّس تجليّاتها ببساطة متناهية، وذلك من خلال متابعة عينية لكثير من تلك الحراكات التي تكشف أن أيّ عنوان ذي صلة بالشأن العام، مطروح للبحث أو الحوار، فإنه لن يحظى سوى ببضع دقائق من الاهتمام، ثم سرعان ما يفقد مركزيته، ليتم الانتقال إلى موضوعات أخرى، بل غالباً ما يتم استحضار معظم القضايا والإشكاليات الرابضة في التاريخ العربي والإسلامي، وتتفتّح القرائح لشهوة عارمة في استعادة السجالات التاريخية، بدءاً من نشوء الدولة الإسلامية وعوامل اتساعها وتمدّدها، مروراً بالصراع بين علي ومعاوية، وقضايا المعتزلة والأشعرية والماتريدية والخلاف بين الفقهاء والفلاسفة ، والغزالي وابن رشد، وصولاً إلى الموقف من السلطنة العثمانية، ثم الموقف من الوحدة بين سورية ومصر، والموقف من عبد الناصر وصدام حسين، وأخيراً وليس آخراً، الموقف من العلمانية وحماس والإخوان المسلمين وووإلخ، وهكذا تصبح إمكانية الاتفاق أو الإجماع حول مسألة من مسائل الشأن العام السوري مرهونة بالاتفاق حول جميع إشكالات وعوالق الماضي، وهذا – بالطبع – ضرب من المستحيل، ناهيك عن حالات التشنج والحرّد، وربما تقاذف التُّهم التي تنتاب مجريات الحوار. وما إن تشارف الندوة أو الحوار على النهاية، حتى نجد أن كل أحقاد التاريخ وأوبئته قد استفاقت في النفوس، وبدأ الجميع يفكر ويلتفت إلى الماضي، في حين أن ما دعاهم للحوار هو التفكير براهن سوريا ومستقبلها.

ولئن كانت النزعة ( الماضوية) الراكنة في النفوس والأذهان كابحاً حقيقياً لأية مقاربة جدية تلامس مفهوم (وطنية سوريا جديدة) تتجاوز عكر الماضي وتتسامى على أوجاعه، لترتقي إلى مستوى التضحيات العظيمة للسوريين، فإن هذه ( الماضوية) ذاتها تنقلب من جهة أخرى، لدى هذا الضرب من النخب، إلى وسيلة للقفز فوق الحاضر، ليس مبالغة باستشراف المستقبل، بل هروباً من مواجهة استحقاقات ملحّة وموجبة، فليس غريباً أن تجد التفكير والجهد المبذول في الأوساط النخبوية، يتوجه بغالبيته للحديث عن مسائل سوريا المستقبل، (عن شكل نظام الحكم، ودستور الدولة، علمانيتها أو إسلاميتها ووووإلخ)، علماً أن ما كُتب ونُشر حول هذه المسائل يبلغ الأطنان من الورق، فضلاً عن حالة التشابه التي تصل إلى درجة النمطية بين أصناف هذا المُنتج، في حين يغيب التفكير أو يندر حول الإشكالية الأهم، بل الأولوية من حيث المنطق، وهي البحث في السبل التي تمكِّن السوريين من إزاحة الصخرة الجاثمة على أبواب مستقبلهم أولاً، أعني النظام القائم، حتى يتمكّنوا من الولوج إلى سوريا المتخيّلة، بل غالباً ما يلقى السؤال السابق ردّاً لا يقلّ نمطيةً عن المُتَخيَّل السابق لمستقبل سوريا: (لقد خرجت القضية السورية من أيدي السوريين، وبات الحل مرهونا بتوافق مصالح الدول النافذة في الشأن السوري، ولا جدوى من أي دعوة للعمل في الأنساق الداخلية للثورة المغدورة، وتارة المنحورة). بل ربما يرى بعض أصحاب هذا الاتجاه أن أية دعوة للتفكير في بدائل نضالية جديدة لمواجهة نظام الأسد في ظل انسداد المسارات السياسية والتفاوضية، ما هي إلّا نزعة شعبوية تنمّ عن سذاجة في التفكير، أو ضرباً من الثورجية التي لا ترقى إلى إدراك الحالة المتشعبة للراهن السوري.

ربما يدعونا ما سبق من كلام إلى إعادة النظر بماهيّة النخب السورية، لا من حيث رصيدها المعرفي والفكري والسياسي، بل من حيث أنماط تفكيرها، ومدى استعدادها النفسي والأخلاقي لمواجهة الحاضر بوعيٍ يستلهم تطلعات السوريين بالعيش بأمان وكرامة وازدهار.