المؤثرون والفاعلون السوريون في مرحلة ما قبل الثامن من آذار وما بعدها

2023.03.11 | 05:27 دمشق

المؤثرون والفاعلون السوريون في مرحلة ما قبل الثامن من آذار وما بعدها
+A
حجم الخط
-A

نقصد بالمؤثرين تلك الشخصيات التي أدت أدوراً مركزية في تحولات التشكل السوري بجوانبه السياسية والفكرية والاجتماعية، وهم مؤثرون ومركزيون في التاريخ السوري بأدوارهم ومواقفهم وجهودهم وأموالهم. وليسوا المؤثرين بعدد متابعيهم أو بالمحتوى الرقمي الذي يقدمونه، حيث كانت مقاييس المؤثر ومفهومه مختلفة كلياً عما نعيشه اليوم.

وخصوصية الظرف السوري المركب طائفياً وإثنياً وقومياً وجغرافياً ومفهوم المدينة والريف جعلت الكثير من جهود هذه الشخصيات تبتر من سياقاتها، أو يتم التعتيم عليها وتغييبها وتجاهلها، أو تكون ضحية صراع الفاعلين في المشهد السوري، أو الصراعات الحزبية. أو تحقيقاً لإرادة النظام السوري الحاكم لاحقاً إبان كتابة التاريخ السوري، حيث كانت هناك محاولة تصدير فكرة أن سوريا لم تكن دولة قبل تسلم حزب البعث للسلطة، خاصة بعد استلام حافظ الأسد فيما دعي بمسرحية "الحركة التصحيحية".

وهي من جانب آخر شخصيات إشكالية تختلف الأقوال حول أدوارها ومواقفها ومنتجها الفكري والثقافي والمعرفي وسلوكها السياسي، وهو ربما ما يجعلها جديرة بالبحث والتنقيب والنقاش، أما مصادر البحث حولها فهي مذكراتها أو مذكرات مجايليها أو الحوارات معها أو ما أنتجته من كتب أو ما كتب عنها، أو كتب التاريخ السوري والعربي المعاصر.

التاريخ السوري مليء بالتغييب والصمت. ويجد الباحث مشقة كبيرة في معرفة سياقات وجود تلك الشخصيات أو أدوراها أو دوافعها أو منتجها وأثرها

ليست هذه الشخصيات وحدها في التاريخ السوري الحديث التي طالها تغييب الإهمال والتعتيم بل كذلك الكثير من الشخصيات الأخرى في مختلف جوانب التاريخ السوري، بحيث لا نعرف عنها كسوريين ما يجب أن نعرفه، أو بالضبط ما مشكلتها أو دورها أو لماذا قامت بما قامت به، لأن التاريخ السوري مليء بالتغييب والصمت. ويجد الباحث مشقة كبيرة في معرفة سياقات وجود تلك الشخصيات أو أدوراها أو دوافعها أو منتجها وأثرها، مع إدراك أنها تختلف اختلافاً كبيراً من حيث الدور والمكانة والأثر. ومن هذه الشخصيات: خالد بكداش وشكري القوتلي وعبد الرحمن الكواكبي وهاشم الأتاسي وعبد الحميد السراج وأديب الشيشكلي وصلاح جديد وفارس الخوري وأكرم الحوراني وأنطون مقدسي وياسين الحافظ وبدر الدين الشلاح وأحمد كفتارو وعصام العطار وشكري القوتلي ونزار قباني وغادة السمان.

ونذكر من تلك الشخصيات خالد العظم 1903-1965الذي كان رئيساً مكلفاً، ورئيس وزراء ووزير أكثر من مرة عبر نحو ثلاثين عاماً وقد كان ينتمي إلى بيت سياسي معروف، حيث تولى أجداده وأفراد من أسرته أدواراً سياسية لفترة طويلة، ودخل هو معترك السياسة والبناء الاقتصادي بصفته رئيس وزراء أو وزيراً مرات عدة أو رئيساً مكلفاً لفترة تجاوزت الثلاثين عاماً في مرحلتي الانتداب الفرنسي وما بعد الاستقلال، وقد مثلت إدارته جانباً من التكوين الاجتماعي السوري المتمثل بطبقة الأثرياء، وفي الوقت نفسه هو ممن كانت لديه رؤية اقتصادية واضحة حول إدارة الدولة، إضافة إلى جانب آخر وهو البراغماتية السياسية والبحث عن التقاطعات مع الدول المحيطة والمحاور الدولية.

دوَّن خالد العظم تصوراته وتجربته ومواقفه في مذكراته التي بلغت عدة أجزاء، وكان كذلك حاضراً بقوة في المذكرات وكتب التاريخ عن الفترة التي كان فيها في مركز القرار كما في كثير من الكتب كما في مذكرات بشير العظمة ومطيع السمان وأكرم الحوراني وساهم.

وفي الوقت الذي كان فيه خالد العظم يطرق أبواب السياسة والاقتصاد ويشارك بها، فإن هناك شخصيات أخرى نشطت في مجال العمل الأهلي، والصحفي ضمن الظرف المتاح آنئذ وسياقها التاريخي والثقافي، فتركت بصمة مختلفة ورائدة، كشخصية: نازك العابد 1887-1959 وهي ناشطة نسوية ومؤثرة اجتماعية أفادت من وضع أسرتها وأموالها لتسخره في خدمة الشأن العام، عبر تقاطع الإرادة الفردية مع السياق المحيط بها.

لم تكتف العابد بالدور التوعوي والنهضوي والمجادلة الفكرية والاجتماعية لإعادة دور المرأة والتنبيه إلى أن تعطيل نصف قوى المجتمع له أضرار كبيرة جداً، بل إنها لم تتردد في المشاركة كذلك في ساحات القتال التي كرستها الثقافة التقليدية على أنها ساحات ذكورية فحسب، وعملت كذلك في الصحافة وتأسيس المجلات إضافة إلى تأسيس الجمعيات.

 أدركت نازك العابد مبكراً أن التعليم هو المدخل الرئيس لتوعية المجتمع وبالتالي الاعتراف بحقوق المرأة وتابعت أنشطتها نحو السياسة ومحاولة الحوار مع الجهات الفاعلة للحصول على حقوقها، وواكبت الأحداث. ولم يغيرها أو يحول مسار اهتماماتها زواجها من شخص لبناني؛ بل أسست كذلك أكثر من جمعية في بيروت. وبعد نكبة فلسطين أسست جمعية أخرى محور نشاطها الفلسطينيين ومساعدتهم.

إن تنبه نازك العابد لدور الجمعيات والاعتماد عليها بدلاً من الاعتماد على مفهوم العائلة والحي والجماعة والعائلة التقليدية يعد نقلة كبيرة في المفاهيم القارة حول العمل الجماعي.

ولئن كان الاستقلال هو البوصلة الرئيسية لأي شخصية أو عمل سياسي أو اجتماعي في مرحلة الانتداب الفرنسي؛ فإن هناك محدِّدات رئيسية مختلفة قليلاً بعد الاستقلال منها: المرجعيات الفكرية بين المحلية والدولية والإنسانية أولاً، والموقف من الدين، والعروبة، والقضية الفلسطينية ثانياً، وما هو مشروعها الوطني السوري. وهو ما انشغل به ميشيل عفلق (1910-1989) وهو مؤسس حزب ووزير لاحقاً، الذي يعدُّ من أهم واضعي أسس حزب البعث ومنطلقاته، إذ التمس مع صلاح الدين البيطار الحاجة إلى حزب جديد يحمل ذلك التفتح العربي القومي بعد مرحلتيْ العثمانيين والانتداب الفرنسي. وبقي أميناً عاماً حتى عام 1965 ما عدا فترة الوحدة حيث تم حل الأحزاب في سوريا، ليعايش مرحلة الانقلاب عليه وعلى رفاقه مؤسسي حزب البعث عام 1966 من قبل عدد من الضباط الريفيين (غالباً). حيث بدأ الحزب على يد البعثيين العسكريين وحلفائهم يعاني من أمراض الحزب الحاكم وكيفية إدارة الدولة. لينقسم إلى جناحين، يرى أحدهما (العروبي/القومي) أن فضاء الحزب عربي أولاً وهؤلاء هم من المؤسسين والمدنيين غالباً، فيما يرى الجناح الآخر (اليساري/القطري) أن البعد الماركسي هو الأهم وسوريا الكبرى هي الطموح. إلى درجة اضطرار أحد أهم المؤسسين (ميشيل عفلق) ذاته للهروب إلى العراق ليشغل مهمة أمين لحزب البعث هناك، حيث غدا هناك نسختان لحزب البعث عراقية وسورية، لكل منها مفاهيمها وخططها، ويشتركان في أن كلاً منهما تخوّن الأخرى وتدعي أنه تمثل حزب البعث.

تم تجيير حزب البعث وشعاراته وأهدافه ليغدو مطية لأشهر نظامين استبداديين هما نظاما: صدام حسين وحافظ الأسد

 ومن المفارقات آنئذ أنه تمت إعادة النظر في الأب الإيديولوجي لكل من حزب البعث السوري حين تم إدخاله إلى المناهج الدراسية حيث قتلت النسخة السورية الأب الرمزي ميشيل عفلق، وتبنت أباً جديداً هو زكي الأرسوزي!

وفي الحالتين والنسختين تم تجيير حزب البعث وشعاراته وأهدافه ليغدو مطية لأشهر نظامين استبداديين هما نظاما: صدام حسين وحافظ الأسد مع ما بينهما من فروقات لها علاقة بخصوصية كل بلد ومكوناته.

والتمعن في التاريخ السوري المعاصر يجعلنا نتساءل: هل كان من الممكن أن تكون قائداً مؤثراً في سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال، وأنت لستَ ابن أحد المدن الكبرى، أو لست ابن وجيه اجتماعي، أو ابن طبقة مالية وازنة من مثل أصحاب المصانع، أو الأملاك الكبيرة أو التجارة، وفقاً لمعطيات الاقتصاد التقليدي السائد آنئذ. خاصة أنه كان من الصعب تجاوز التصنيفات التقليدية في المجتمع السوري حيث السلطات والوجاهات اجتماعية ودينية وعسكرية. فإما أن تكون قد ولدت فيها وكنت منتسباً بالنسب والدم لها أو عليك أن تبحث عن فكرة تأسيس حزب يخترق تلك البنى القارة أو عبر انقلاب عسكري أو انقلاب اجتماعي أو مفهوم جديد للسياسي الديني. ويندر أن وجد أحد من غير تلك الطبقات نفسها استطاع أن يحقق تلك الاختراقات لسبب بسيط هو أنه لا أدوات لديه لتحقيق مثل هذا الاختراق.

وعلى الرغم من اختلاف مفهوم المؤثر والفاعل ودوره وأثره في التاريخ السوري، إلا أن تأمل المشهد اليوم يكشف أن المفاهيم تغيرت وتعددت واختلفت في مرحلة الحياة الرقمية، وصار اختراق المفاهيم القارة ممكناً، إذ قد يكون عبر مفاهيم مثار اختلاف من مثل الانشقاق عن السلطة، أو التطرف التشبيحي، أو عدد المتابعين أو سوى ذلك من خلال إنشاء المنظمات أو القيام بمشاريع مدنية أو الإفادة من ممكنات العالم الرقمي ومعطياته أو دورك في الحراك العالمي، إذ ليس بالضرورة أن يكون حضورك نابعاً من القاعدة (الوطن) إلى العالم، بل قد يكون تحقيقك حضوراً عالمياً مدخلاً لحضورك في التاريخ السوري، وهو لا ينفي في الوقت نفسه بقاء الصيغ التقليدية للفاعلين المؤثرين في التاريخ.