اللواء الدكتور عمار سليمان وإدارة خدمات الجريمة الطبية

2022.01.24 | 04:47 دمشق

thumbnail_mar_slyman.jpg
+A
حجم الخط
-A

إلى ذكرى الطبيب الشهيد محمد أسامة البارودي

في دمشق يتابع رجل بنظارات سميكة وقائع محاكمة الدكتور علاء موسى في فرانكفورت. ورغم أنه حسم خياره منذ وقت طويل بركوب سفينة الأسد حتى النهاية فإن معرفة موقعه في العالم الخارجي ما تزال مهمة. قد لا يعرف أن هناك شهوداً على إصداره أوامر مباشرة بترويع المحتجين المصابين في مشفى حمص العسكري، وهو المكان الذي مارس فيه علاء انتهاكاته المفترضة في حقهم؛ لكن عمار سليمان يعلم تماماً أنه المسؤول الأول عن الجرائم الطبية التي ارتكبها القطاع الصحي في الجيش المسمى «إدارة الخدمات الطبية»، ليس فقط منذ أن تسلّم إدارتها عام 2017، بل لأكثر من عقد سبق كان المتحكم الفعلي فيها بوجود مديرين صوريين، عندما كان مجرد رئيس للفرع العلاجي منها.

عام 1964 ولد عمار سليمان لعائلة تتحدر من قرية صغيرة يصعب العثور عليها في الخريطة مهما كانت دقيقة. وهي «المقليسية» التي تبعد عدة كيلومترات عن «عرين الأسود» القرداحة. فكان الانتساب إلى الأخيرة أفضل بما لا يقاس. كما كانت زمالة المصادفة التي جمعته مع بشار الأسد، الذي يصغره بعام، على مقاعد كلية الطب بجامعة دمشق، وتحولت تدريجياً إلى صداقة مع مرور السنوات وتطوّع الاثنان في الجيش وهما طالبان جامعيان، ثم توجههما للاختصاص في مشفى تشرين العسكري؛ الأسد في العيون وسليمان في الجراحة العصبية.

حادث السير الشهير الذي أنهى حياة باسل في مثل هذه الأيام قبل ثمانية وعشرين عاماً، فتح الباب لمستقبل بعضهم وطوى صفحة آخرين

لم تكن صداقة بشار تعني الكثير في ذلك الوقت، في ظل هيمنة شقيقه باسل على المشهد وإعداده الواضح لخلافة أبيه. لكنها كانت نقلة في حياة عمار الذي نشأ في بيئة متواضعة كابن بكر لوالده منير مهنا، الموظف الحكومي الذي تفرغ آخر عمره لمتابعة سيرة أجداده في التدين حتى نعته صفحات علوية عديدة، عند وفاته قبل عامين، بوصفه «الشيخ الجليل».

لكن حادث السير الشهير الذي أنهى حياة باسل في مثل هذه الأيام قبل ثمانية وعشرين عاماً، فتح الباب لمستقبل بعضهم وطوى صفحة آخرين. وفي حين كان الابن الأكبر لحافظ واعياً لمسيرته المرسومة فبدأ باختيار فريقه الواسع لحكم سوريا من الزملاء والأصدقاء وأبناء المسؤولين؛ فإن شقيقه الطبيب، المستدعى على عجل من بريطانيا، حيث كان يتابع اختصاصه، ليستكمل مسيرة أخيه في وراثة الحكم؛ لم يعتمد من «جماعة باسل» إلا القليلين، بحكم التنافس بين الشقيقين واختلاف طباعهما. ومن هنا فقد جمع «رجاله» بطريقة تلفيقية هجينة ضمت بعض الحرس القديم المتبقي من إرث والده إلى شبان عصريين تلقوا تعليماً شبه غربي رشحتهم زوجته أسماء، مع آخرين دفعتهم المصادفات أو المحسوبيات أو الأقدار. غير أن ثقته الكبرى ظلت تتركز على أصدقائه الشخصيين قبل كابوس الوراثة وجنة الرئاسة. وهؤلاء قلة بحكم طبيعته المنزوية قبل أن تسلط عليه الأضواء، وفي مقدمتهم عمار سليمان.

خلال سنوات إعداد بشار اختار لصديقه مساراً مشابهاً، فحجز له مكتباً بالغ الصغر في مشفى تشرين، درة تاج المؤسسات الطبية العسكرية في البلاد، مكلفاً بضبط مواعيد قدوم الأطباء وخروجهم. ولأن أكثر هؤلاء كانوا ضباطاً، وفيهم ذوو رتب عالية؛ فإنه لم يكن من المتوقع أن يستجيبوا جدياً لهذا الإجراء الذي يشرف عليه ضابط صغير، لولا أن سمعة علاقته بالرئيس القادم قد سبقته. فصار مكتبه المتواضع مقصد من طمح في ترقية أو احتاج إلى «خدمة»، أو أراد إظهار الولاء وحجز مكان في قطار العهد الجديد. أما سليمان فكان يشبك علاقاته في الوسط الطبي العسكري وعينه على قيادته في «إدارة الخدمات الطبية».

نشأت هذه الإدارة مع تأسيس الجيش السوري، كفرع من مكتبه الرابع (الشعبة الرابعة) المسؤول عن التموين والإمداد. وظلت قطاعاً هامشياً من الجيش، رغم تحولها إلى إدارة مع توسعه، حتى تولاها ماجد العظمة فشهدت في عهده الطويل عصرها الذهبي.

في العموم اشتهر العظمة بأنه زوج نجاح العطار، وزيرة الثقافة التاريخية أيام الأسد الأب والنائبة الشكلية لبشار، غير أن عارفيه يروون له سيرة خاصة.

ينتمي العظمة إلى عائلة دمشقية من أصول تركمانية لم تكن بعيدة عن الحياة العسكرية، كما هو معروف. تطوع في الجيش طبيباً واختص في الخمسينيات في بريطانيا، مصطحباً نجاح التي تزوجها بعد أسبوع واحد من تعارفهما. ويُنسب إليه شباب يساري قبل أن تعاوده شاميته وينشغل بالعمل، ليلاً نهاراً، في إدارة الخدمات الطبية التي يعدّ مؤسسها الفعلي، إنشاء للمشافي العسكرية الضخمة في العاصمة والمحافظات، وتوسعاً كبيراً في شبكة المستوصفات العسكرية، ونمواً هائلاً في شركة «الديماس» المنتجة للأدوية. مع ما يستلزم الأمر من إعداد الاختصاصيين والكوادر في جامعات بلدان غربية استورد منها أحدث التجهيزات. وقد صوحب ذلك بالانضباط اللبق واحترام الكفاءات وغياب واضح للفساد.

وفي حين ينسب مؤرخو الإدارة الشفويون للعظمة فضل تأسيسها فعلياً في مرحلة إعادة بناء الجيش في عهد حافظ الأسد، فإنهم يقولون إن عراب فسادها وتطييفها مدير آخر مديد لها هو محمود زغيبة، طبيب الصدر من قرية قرقفتي بريف طرطوس الذي وصل إلى الإدارة محمولاً على علاقات أمنية متينة واسعة. فقد استمرت الميزانية الكبيرة التي تحصل عليها من وزارة الدفاع لكن من دون تطوير يذكر، بل إن مسيرتها أخذت بالتراجع. ومن الجدير ذكره هنا أن هذه الإدارة لا تجري فقط المناقصات الطبية الضخمة للجيش والقوات المسلحة، من تجهيزات ومستهلكات، بل تشرف أيضاً على «المجلس الطبي العسكري» الموكل بفحص المجندين وتقدير نسبة عجز المصابين وقرارات أهليتهم للخدمة الميدانية أو الثابتة أو التسريح وتقدير تعويضات الجرحى. وهي كلها أبواب عريضة للنهب. ومن جهة أخرى تضافرت جهود زغيبة في التعيينات والاستبدالات الطائفية مع ميول آخرين مسؤولين عن قبول الأطباء المتطوعين في الجيش والإيفاد الداخلي لصالحه، وسواهم ممن بيدهم قرارات الإيفاد الخارجي لنيل الاختصاص. وهكذا لم تمض سنوات حتى تمت علونة القطاع بنسبة لافتة تكثفت بشكل جلي في مشفى تشرين، أطباء وجهاز تمريض وإداريين وموظفين وحتى عمالاً.

طوال هذه الأعوام كان سليمان المسؤول فعلياً عن الجرائم الطبية التي مورست في المشافي العسكرية كتشرين والمزة (601) وحمص والصنمين

قبل الثورة كان من المعروف في المشفى، وفي إدارة الخدمات الطبية التي يتبع لها وتقيم في مبنى بكنفه، أن الكلمة الأولى فيهما لعمار سليمان بغض النظر عن المديرين الذين تعاقبوا شكلياً. أما بعدها فصار حضوره مباشراً حتى قبل أن تسمح له التراتبية العسكرية بتسلّم الإدارة أخيراً بعد وصوله إلى رتبة لواء. وطوال هذه الأعوام كان سليمان المسؤول فعلياً عن الجرائم الطبية التي مورست في المشافي العسكرية كتشرين والمزة (601) وحمص والصنمين، والأجهزة الأمنية، والسجون العسكرية بما فيها سجن صيدنايا الشهير، من تعذيب وإهمال للرعاية الصحية مما أدى مراراً إلى الموت، وأخيراً تغطية ذلك بتقارير وفاة كاذبة عن «توقف القلب» كتبها مئات الأطباء المفرزين إلى هذه المنشآت باختيار مدروس من قبل إدارة الخدمات الطبية.

في مكتبه الفخم تابع أبو بشار وثائقي «حفار القبور» الذي بثته قناة «الجزيرة» مؤخراً وتحدث عن مسؤوليته عن المقابر الجماعية للمعتقلين. لكنه لا يبدو قلقاً بشكل خاص، فمنذ أن جمعته المصادفة بذلك الشاب الأشقر النحيل حُدِّد مصيره. وعندما قرر الطبيبان أن يصبحا قاتلين أحرقا مراكب العودة. لن تنفعه الثروة التي جمعها خلال سنوات كحصة مما يجنيه لصالح بشار وزوجته. إنه يحتاج إلى بقاء النظام كي يحافظ على أمانه الشخصي وتُحمى عائلته؛ شقيقه المقدم فراس الذي يحتل موقعاً مهماً في اللواء 105 حرس جمهوري، وصهره اللواء سمير الحجل مدير إدارة التجنيد العامة، وحتى يستمر في رعاية أسرته؛ زوجته وأولاده الثلاثة، دون أن تفرقهم أي قضبان تلوح من الغرب المتآمر البعيد.