اللغة المشتركة في خطاب المارقيْن

2020.06.05 | 00:01 دمشق

untitled-1-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعل مَنْ يتعقَّب المهاوشات الإعلامية الجارية ضمنَ البطانة الداخلية لنظام الأسد، وتحديداً بين بشار الأسد من جهة، وأبناء أخواله من الجهة الأخرى، يدرك بسهولة أن المجال الأول الذي يتبارى الطرفان على التمكّن من حيازته هو اللغة، باعتبارها القناة التي تختزل الجوانب الاجتماعية والنفسية والثقافية للخطاب، وبالتالي، ربما تكون قادرة على توجيه وتصويب الفكرة التي يُراد إيصالها للآخر.

وفي الوقت الذي يرى المتابعون لمشهد (المهاوشة) أن لغة بشار أخذت تتسم بالحزم والصرامة حيال ابن خاله رامي مخلوف، وذلك من خلال تغريداته التي يقول في إحداها: (إن جمعية البستان يشرف عليها بشار الأسد)، في إشارة واضحة للردّ على تحدٍّ سابق أبداه رامي مخلوف لابن عمته، فإن المفردات التي زخرت بها معظم مقاطع الفيديو والمنشورات التي يبثها رامي مخلوف، إنما تنتمي إلى حقل دلالي آخر، تنضح منه معاني الاستعطاف تارة، والاحتساب بالله تارة أخرى، علماً أن هذه اللغة ليس معنياً بها بشار الأسد، وإنما هي مُرسلة من رامي إلى شريحة اجتماعية كان يخصها رامي مخلوف بالعطايا والرواتب أو المكافآت، لقاء ما تقوم به من خدمات، سواء منها عسكرية، تتعلق بحماية سيريتل وجمعية البستان وبقية ممتلكات مخلوف، أو خدمات شبه منتظمة داخل أطر ميليشياوية، كجيش الدفاع الوطني وسواه. وعلى أية حال، لم يكن رامي مخلوف ولا بشار الأسد أصحاب أول مهاوشة داخل منظومة الطائفة العلوية، أو البطانة الداخلية للسلطة، فقد سبق وأنْ شهد السوريون المهاوشة الأولى بين رفعت الأسد وأخيه حافظ عام 1984، حين مرض الرئيس ودخل المشفى، وأوشك – حينذاك – رفعت أن ينقضّ على السلطة، لولا أن استدرك حافظ الأمر، وقطع الطريق على أخيه بدعم واضح من الاتحاد السوفياتي آنذاك. علماً أن الفارق الجوهري بين الطرفين المتمرّدين (رفعت ورامي) أن الأول كان يملك قوة عسكرية على الأرض (سرايا الدفاع) كان قد أسسها رفعت الأسد في بداية الثمانينيات، كما كان قد أنشأ أيضاً ميليشيات ضمن صفوف الطلبة (المظليون)، إلّا أن ما يملكه رامي مخلوف من ميليشيات، ليس بمقدورها على الإطلاق أن تشكل مصدر تهديد لجيش الأسد والميليشيات التابعة له، إلّا أن السمة الجوهرية المشتركة بين رفعت ورامي هي طبيعة الخطاب الذي يصدر عنهما، إذ إنهما الاثنين معاً، خاطبا جمهور السوريين بكلام يمكن وصفه بأنه (كلام حق أُريد به باطل).

المقدم فيصل غانم كان أحد أشهر الشخصيات المحسوبة على رفعت الأسد إبان النزاع بين رفعت وأخيه حافظ، وبات معروفاً أن إدارته لسجن تدمر قد تحوّلت آنذاك إلى مملكة خاصة، تكاد تفوق ميزانيتها المالية أي مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة، وعلى الرغم من تماهي فيصل غانم المطلق مع منظومة الإجرام الأسدية، إلّا أنه لوحظ عليه في أوج الصراع بين الإخوة الأسدين، أنه كثيراً ما كان يدور على مهاجع السجن، وأحياناً يجمع المعتقلين في الباحات، ويلقي عليهم الخطاب تلو الآخر، بغية إيصال رسالة لجميع السجناء، مفادها: أنه ليس هو من اعتقلهم، وأنه مُجبر على تطبيق التعليمات التي تأتيه من القيادة، ولو أن الأمر عائد إليه، لأطلق سراح الكثير منهم. إذ ثمة ما هو أبعد من ذلك، في الحكاية التي يرويها المعتقل السابق الأستاذ راشد الردّاوي، الذي كان أمين فرع حزب البعث في مدينة دير الزور منذ شباط 1966، وحتى تشرين ثاني عام 1970، تاريخ (الحركة التصحيحية) التي كان الردّاوي أحد مناهضيها، فاتصل به – حينذاك – حافظ الأسد شخصياً، مستفسراً عما إذا كان الرداوي مصراً على موقفه الرافض للانقلاب الجديد، وحين أكّد له الرداوي رفضه، أشار إليه حافظ أسد بأن يبقى مسيّراً لأعمال الفرع في دير الزور ريثما يأتي مسؤول جديد، وحين أتى أمين جديد للفرع قام الردّاوي بتسليمه – أصولا وبموجب إيصالات رسمية – جميع عائدات الفرع، من مكاتب وسيارات وممتلكات إلخ، في العام 1979 تم اعتقال راشد الردّاوي، وأودع في سجن أمن الدولة في منطقة كفر سوسة بدمشق، وفي نيسان عام 1980 تم ترحيله إلى سجن تدمر، وفي العام 1984 ، جاءت دورية مؤلفة من ضابطين وثلاثة أفراد آخرين، من فرع أمن الدولة بدمشق، إلى سجن تدمر للتحقيق مع المعتقل الردّاوي، في مكتب فيصل غانم وبحضوره، وكان موضوع التحقيق هو (مسدّس) كان بحوزة الردّاوي حين كان أميناً للفرع في المرحلة السابقة، إذ اتهمه رئيس الدورية بأنه لم يسلّم المسدس للمسؤول الجديد، أجاب الردّاوي بأنه سلّم كلّ شيء عائد للفرع، بما في ذلك المسدس، ولكنه رأى أنه من غير المناسب أن يطلب من المسؤول الجديد إيصالاً، إلا أن جهة التحقيق أصرّت على أن الردّاوي قام بسرقة المسدس.

وكما يروي صاحب الحكاية، فما كان من فيصل غانم إلّا أنه انتفض غاضباً وصرخ بوجه الضابطين ومن معهما: (كفاكم علاك، والله أنتو الحرامية مو هو، ولك استحوا على حالكن، هاد الزلمة كان أمين فرع، ولو كان بدو يسرق، كان أيّد انقلابكن وسرق على كيفو، لكن لأنو إنسان شريف ما أيّدكن، وبعدين أنتو طهرتو كل البلد من الحرامية وضل هاد الزلمة) ثم ختم كلامه قائلاً لهم: (ولاه، يللا انقلعو من هون، وتاني مرة إذا شفت حدا منكن هون رح حطو بالدولاب، وأدفسو بالزنازين).

بعد انصراف الدورية، همس فيصل غانم بأذن المعتقل راشد الردّاوي قائلاً، (هاد الكلام اللي سمعتو مني هلق، بدّي ياك تنقلو وتحكيه لكل رفقاتك من السجناء).

ما هو ليس بحاجة إلى إيضاح أن رفعت الأسد أراد إيصال رسالة سياسية إلى المعتقلين يؤكد لهم من خلالها أن جماعة رفعت ليست شريكة في جرائم السلطة، وأن هذه الجماعة ستكون البديل الأفضل لحكم سوريا.

خطاب المتمرّد السابق رفعت، كما تجسّد بكلام فيصل غانم، يتماهى إلى حدّ كبير، مع كلام رامي مخلوف في منشوره الأخير في الأول من حزيران، الذي أشار فيه إلى وقوف بشار إلى جانب الظالمين ضدّ المظلومين، كما توعّد بزلزال سيقضّ مضاجع الظالمين (بشار وزوجته)، إلّا أن هذا الزلزال لن يكون بفعل (سرايا الدفاع) كما أراد رفعت قبله، بل بفعل إرادة إلهية.

كلمات مفتاحية