اللجوء إلى لغات أخرى

2021.10.31 | 06:33 دمشق

lwht_ayfa.jpg
+A
حجم الخط
-A

نمضي إلى الكتابة لأننا نخشى بعد كل هذا الغياب أن لا نجد أوطانا تركناها وراءنا، نكتب لأن الكتابة صوت الضحية، شكل الجرح المفتوح، ولأننا بتنا في منافي الأرض، ولا نعرف على أي أرض نموت، نكتب لأن اللغة صوت الهوية فينا، نخاف أن تضيع لغتنا الأم ونبقى عالقين في التيه، تأخذنا الحياةُ إلى كتابة هذا الواقع المتخم بالخراب، والذي يفتح باب السؤال أمام مشهد نرى فيه أوطانا كاملة تنزاح من أمكنتها بصورة قيامية، ماذا لو أصبح اللجوءُ سيدَ الأرض؟

وبالتالي، ما اللجوء، وكيف ينعكس على اغترابنا عن لغتنا الأم، ومتى تتحوّل اللغة الجديدة إلى لغة عدوة، أو إلى منفى، وربما إلى غنيمة حرب كما سمّاها بعض من عاش التجربة؟

وهل يؤسس العصر الذي نعيش فيه، لجيل عالمي "إنترناشيونال"، خاصة بعد أن صار في الأسرة الواحدة، جنسيات متعددة، ماذا سيكون مصير الأجيال المتتابعة؟

ثمة اعتقاد بأنه رغم شتات نصف الشعب السوري، في لحظة زلزال كبير، فإن آلاف الشباب تحرروا من منظومة قيم مغلقة، وستولد قيم جديدة، لغات جديدة، وهذا يشكّل اختبار حياة حقيقياً، فالحرية قيم أخلاقية تعلمنا أن لا يبقى الوضع كما هو، خاصة أن المدن كانت لا دخول ولا خروج، ويطغى عليها ثقافة اللون الواحد، فجأة حدث الزلزال، وبات اسمنا لاجئين، نازحين، ومغتربين، ومهاجرين.. إلخ.

لاشك فإن أسباب الهجرة واللجوء كثيرة، الحرب، الصراعات الطائفية، المجاعات التغير المناخي، التلوث، الاستعمار الاستيطاني، البحث عن فرص عمل، والدراسة وأسباب كثيرة أخرى يكمن وراءها الاستبداد، ورغم هذا فإن السوريين هم من أكثر شعوب العالم عشقا وجنونا في محبتهم لوطن ميت وشوارع يابسة..

يدرك اللاجئ أنه في المؤقت، يضطر إلى أن يثبت جدارته ونجاحه، خاصة إذا كان طريق الرجوع بعيدا

ولأن مهجري الحروب يتشابهون في البلوى، تحضرني الكاتبة البلغارية "آغوتا كريستوف"، التي روت في كتابها "الأمية"، عن تجربتها في ظروف الحرب والنظام الاستبدادي، الذي اضطرها إلى اللجوء في خمسينات القرن الماضي، ليستقر بها المقام في سويسرا، بمعنى أقرب هي هاجرت إلى لغة أخرى، تعلمت اللغة الفرنسية وصارت تكتب بها بعيدا عن لغتها المجرية الأم، ورغم نجاحها وشهرتها، فإنها  تقول "أتكلم اللغة الفرنسية منذ ما يزيد على ثلاثين عاما، وأكتب بها منذ عشرين سنة، ومع ذلك مازلت لا أعرفها، أسمّي اللغة الفرنسية لغة عدوة، لأن هذه اللغة تقتل لغتي الأم". ص 33

يدرك اللاجئ أنه في المؤقت، يضطر إلى أن يثبت جدارته ونجاحه، خاصة إذا كان طريق الرجوع بعيدا، كل شيء يدفعه للنجاح  والتحدي، للاندماج والذي يبدأ من  تعلم اللغة والاقتراب الثقافي من المجتمع الجديد، فمن الصعب على البعض بعد سنوات من الاغتراب، اكتشاف أن اللغة بدأت تبتعد، ولم تعد مفرداتها مألوفة، هذا الشعور لا يخفى على أكثر الناس الذين عاشوا في المهجر، لاسيما الجيل الثاني أو الثالث للهجرة، فتصبح اللغة الأم في الظل واللغة الجديدة هي لغة التعبير اليومي والكتابة والتواصل وكل شيء، أي تصبح اللغة الجديدة هي لغته، وتبدأ اللغة الأولى تنزاح عن المخيلة، لا تسعف اللغة الأم في التعبير عما يحتاجه، وهذا يعني أن اللغة تتلاشى تدريجيا من الذاكرة كلما طال الاغتراب عن الوطن.

بتنا في عالم ربما يفوق الخيال، تفكك الأسر، تفرقها، تفتتها، تشتتها، ومن خلال من هم حولنا، نرى أباً حصل على الجنسية الهولندية، وابنه على الجنسية السويدية، وآخر على التركية، وهكذا، تخيلوا هذا المشهد بعد عشرين سنة، كيف سيكون الجيل الثاني أو الثالث، وهل سيكون ثمة فرصة للرجوع إلى الوطن؟

اليوم معظم الأهالي يشجعون أولادهم على عدم الرجوع إلى أي بلد عربي، وأن يجدوا أي فرصة في بلد أوروبي أو أميركي، بسبب البلاد الطاردة، واليأس الذي يعيشونه، فهل أن نعيش بزمن مهزوم، يوصل اللغة إلى الهزيمة؟

لا شك فإن تعلم اللغات يفتح أفقا حقيقيا على ثقافات أخرى، حتى الذين هاجروا إلى لغات أخرى كتبوا مدنهم وذاكرتهم الأولى، وأغنوا اللغة بدم جديد، لا سيما الفرانكفونيين، في حين سوريا وخلال نصف قرن كانت مغلقة إلى حد كبير عن لغات العالم، جاءت الحرب، وجاءت معها الهجرة واللجوء.

أما من لجأ أو نزح إلى دول الجوار، وسكن في خيمة فهو يعتبرها مؤقتة وينتظر خلاص الحرب والقرارات ليعود إلى مكانه الأول،  وحسب تقرير الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فهناك أكثر من 5.6 مليون شخص  فرّ من سوريا منذ عام 2011، بحثًا عن الأمان في الدول المجاورة، معظم هؤلاء يفتقدون لشروط إنسانية حقيقية، تمنح لهم التعلم، وتطوير الكفاءات، فيقعون في تخلف وأمراض اللجوء والحرب، ويصبح المحيط مريضا..

من هنا فإن اللاجئين هم أشخاص لا يمكنهم العودة إلى بلدهم الأصل بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد أو الصراع أو العنف أو ظروف أخرى أخلّت بالنظام العام بشكل كبير، وهم بالتالي بحاجة للحماية الدولية، وهناك المهاجرون الذين دخلوا بطرق شرعية وحصلوا على إقامات عمل أو فرص للدراسة..

يحدث هذا الهول من الفجيعة في زمن العولمة عالم متوحد تحت إطار هوية واحدة، يسمى بالمثاقفة، حيث تندمج الهويات الثقافية الخاصة مع الثقافة المركزية، وهنا أستحضر ما قاله الواسيني الأعرج في "حكاية العربي الأخير"، الرواية التي تقترب من الربيع العربي، وترصد بمتخيل عال يستند إلى الواقع دخول المنطقة مرحلة في المصير المجهول، يستشرف فيها مستقبل المنطقة: "كنت أعرف أن زمنا مظلما آتٍ لا محالة، سيعمي البصر والبصيرة وسيحرق النفوس قبل الأجساد، ويغرّب أهل البلاد ويسكن بأرض الأجداد غرباء القلب والروح".

في هذا اللجوء المأساوي الذي نعيشه، هل ستكون عشرات اللغات التي تعلمها اللاجئ السوري اليوم غنيمة حرب، كما اعتبرها الكاتب الفرنكفوني كاتب ياسين، مكسبا حقيقيا، أم نرد على من اعتبر أن اللغات التي هاجر إليها السوريون مهما تعددت وتنوعت فإنها منفى آخر، كما اعتبرها يوما الشاعر الجزائري مالك حداد، الذي رد على أراغون حين مدحه كشاعر: "أنت مخطئ يا أراغون أنا لا أغني بل أرطن، لو كنت أعرف الغناء لغنيت بالعربية. الفرنسية فرضت عليّ أن أنادي أمي مامي بدل يمّا.. الفرنسية ليست لغتي بل هي منفاي".

دمشق تلك اللغة البسيطة بين القلب وأول الياسمين، لكنهم الطغاة لا يعرفون الحب ولا السلام، يتقنون فقط لغة الحرب، الحرب سوف تأكل كل شيء إلا الشام

هل ستكون المنافي أوطان من لجؤوا، بعد أن ملوا من أوطان تحولت إلى قبر مفتوح؟

كأن ما يصيب العرب اليوم مدّ كبير من الضياع والاستلاب، وبالتالي التعلّق بالمكان الآني، والابتعاد عن اللغة العربية، وهنا لابد من الإشارة إلى أهمية تعلم اللغات الأجنبية، كونها تصب في الثقافة والحضارة ونوافذ الوجود.

ولكن ماذا لو كان اللجوء إلى هذه اللغات قسريا، ماذا لو اغتربنا عن لغتنا الأم، وباتت البلاد مستباحة للغة الكراهية والحروب والطائفية، ماذا سيكون عليه لون البلاد؟

مع ذلك لا أستطيع إلا عشق دمشق، بالرغم من أنها بعثرتني بين المدن والمطارات وقبائل تكرهني، عيناي مغلقتان على حارة مقيمة بدمي، دمشق تلك اللغة البسيطة بين القلب وأول الياسمين، لكنهم الطغاة لا يعرفون الحب ولا السلام، يتقنون فقط لغة الحرب، الحرب سوف تأكل كل شيء إلا الشام..