اللجنة الدستورية والإصلاح المستحيل في سوريا

2020.08.24 | 00:18 دمشق

image1170x530cropped.jpg
+A
حجم الخط
-A

ربما فاجأت تصريحات المبعوث الأممي إلى سوريا "غير بيدرسون" البعض، حين أشار إلى عدم توقع "معجزة" أو "نقطة تحول" في الجولة الثالثة من مفاوضات "اللجنة الدستورية السورية" التي تنطلق يوم الإثنين 24 من هذا الشهر في جنيف، وتأكيده "أن مفاوضات اللجنة لن تشكل حلاً لإنهاء الحرب السورية"!

فالأسد الصغير لم يترك له أي مجال للتفاؤل، حين أكد في أول لقاء له مع أعضاء مجلس الشعب الجديد في الثاني عشر من هذا الشهر، رفضه أي حل سياسي أو مبادرة يمكن أن "توقف حربه على الإرهاب"، فهو منذ البداية عام 2011 اعتبر كل السوريين المنتفضين ضد فساد سلطته واستبدادها مجرد متطرفين وإرهابيين سيقضي عليهم، وقد منحه المجتمع الدولي فرصة نادرة لتحقيق طموحاته وطموحات داعميه، حين شرعَن أولوية الحرب على الإرهاب، متجاهلا حقيقة أن هنالك شعبا ثائرا ضد سلطة فاسدة ومستبدة.

لذلك نجده وبعد عشر سنوات على تلك الحرب المدمرة، يعيد مقولته الشهيرة" ما لم يحققوه بالإرهاب لن يحققوه بالسياسة"، مؤكدا "لن يكون ذلك حتى في أحلامهم"، متابعا، رغم أزمة الضغط المنخفض التي اعترضت خطابه، سخريته من اجتماع اللجنة الدستورية المرتقب، بقوله "أما اللجنة الدستورية فمهمتها فقط إعداد مسودة دستور جديد للبلاد سننظر بالموافقة عليها حينها.. ليس أكثر"، بما يشي بحتمية رفضها، إذا تمت صياغتها، فدون ذلك عبارة وليد المعلم "سنغرقهم بالتفاصيل"، وهي التفاصيل التي عطلت اللجنة الدستورية لعامين أو أكثر.

ألا يكفي ذلك لتفسير واقعية "غير بيدرسون" البائسة، والتي ذهبت كثيرا في لعبة خفض التوقعات؟

هذه اللعبة التي لا يمتلك المبعوث الدولي صلاحية إعلان وفاتها، ولا يمتلك وفد المعارضة في اللجنة الدستورية خيار رفضها، لذلك نجدهما بانتظار ما سيأتي من طرف النظام لتقديم ردود أفعال عليه، ستكون مضبوطة بحدود الصلاحيات الممنوحة لهما للحؤول دون أي انفجار دراماتيكي، وهذا النمط من ردود الأفعال ما زال مستمرا منذ الجولتين السابقتين، وحتى ما بعد الجولة الثالثة والرابعة والخامسة، ما لم يحدث طارئ ما على التوازن الدولي والإقليمي، المعني بهذا المسار التفاوضي، الذي يبدو أنه دخل نفق السبات الشتوي لما بعد انتهاء الانتخابات الأميركية، دون أن يعني ذلك أن نتيجة تلك الانتخابات ستحمل نهاية مأساتنا كسوريين، فبقاء ترامب في سلطته الشعبوية، لن تمنحه إمكانية أن يرى في سوريا أكثر من الرمال والموت، وبعض النفط لشركات مؤيديه في الانتخابات، بينما نجاح خصمه الديمقراطي "جو بايدن"، سيعيد العمل بالاتفاق النووي مع إيران، وبالتالي إنهاء عزلتها السياسية والاقتصادية، وضخ مليارات جديدة في شرايين مشروعها الطائفي الممانع.

لذلك يبدو من مصلحة داعمي نظام الأسد في موسكو وطهران، الحفاظ على هذا النظام بصيغة أو بأخرى، ليستعيدا أرباح توظيفاتهما في المقتلة السورية، خاصة أن هذا الخيار يعفي إسرائيل من اختبار بدائل، لم تقدم لها حتى الآن شهادات حسن سيرة وسلوك.

مأساتنا نحن السوريين الذين اقتنعنا مع المجتمع الدولي، أو هو وافقنا أنه لا يوجد حلّ عسكري في سوريا، بينما النظام وداعموه مستمرون في حربهم العسكرية ضدنا باعتبارها "حرب ضد الإرهاب"، ولا يعدمون طريقة لتصنيع أو لاستقدام مجموعة متطرفة من هنا أو هناك باسم داعش أو حتى القاعدة إن اقتضى الأمر، لتبرير هذه الحرب المستمرة ، باعتبارها المبرر الوحيد لرفض الحل سياسي، و يُدرك رُعاة هذا الحل، الذين اختصروا عملية الانتقال السياسي وفق القرار الأممي 2254، إلى سلة "اللجنة الدستورية" فقط، والتي تكفل النظام بتعطيلها سابقا، وسيتكفل بتعطيلها لاحقا، لأن أي حل سياسي سيفضي بالضرورة إلى رحيل هذا النظام الفاسد والمستبد إلى مزبلة التاريخ.

وهذا يفسر استمرار النظام وداعميه بحروبهم المدمرة لسوريا وللسوريين، على أمل استكانة ما بقي من السوريين لسلطته مجددا، حتى لو توزعت هذه السلطة بين التوازنات الدولية والإقليمية، التي أنتجت وصايات الأمر الواقع المتعددة، إن لم نقل عنها احتلالات، نظام ماض في صنع أوهام شرعيته المفقودة سياسيا وأخلاقيا منذ بداية الثورة، كانتخابات أعضاء مجلس الشعب الذي أضحى بلا مصداقية ولا يحظى بقبول شرائح واسعة من مواليه، نظام سيكون قريبا أمام استحقاق الانتخابات الرئاسية، في بلد أكثر من نصف مواطنيه مشرد بين لاجئ ونازح، وأكثر من 500 ألف ضحية موثقة بعدما توقفت المنظمات الدولية عن إحصاء الضحايا التي يُعتقد أنها فاقت المليون، وقرابة نفس العدد من المعتقلين والمغيبين قسريا، إضافة لمليوني حالة إعاقة جسدية، وكل ذلك قبل جائحة كورونا وتفشي الغلاء الفاحش، والموت المتسارع في المدن السورية وشوارعها.

انتصار الأسد الصغير ما زال يغريه باللعب على معزوفة الإصلاح المستحيل، وهو الإصلاح الذي يذكرنا بمحاولات الأسد الأب المتكررة لتشكيل لجان للنزاهة والقضاء على الفساد والكسب غير المشروع، والتي كانت في كل مرة تتحول إلى خلية فساد وطريقة  لتعيين عدد من المحسوبين لا أكثر، مع أن التاريخ يسجل للأسد الأب الذي شارك في انقلابي حزب البعث لعامي 1963 و1966، أنه اكتشف ضرورة أن يصنع انقلابه الأخير الذي سيطوب سوريا لسلطته إلى الأبد، وكان يُدرك سلفا أن السوريين ملّوا من مسلسل الانقلابات العسكرية التي دمرت كل الطموحات الديمقراطية لدى نخبهم بعيد الاستقلال، لذلك ابتدع مصطلحا جديدا يموه به على انقلابه في تشرين الثاني 1970، فدعاه "الحركة التصحيحية".

ومن يتذكر أول خطاب له بعد الانقلاب، يُدرك المهزلة التي باعها الأسد لبسطاء السوريين، حين رخص سعر مادتي السكر والرز خمس قروش سورية، أي فرنك واحد من أصل 35 قرشا أو سبعة فرنكات سعر الكيلو الواحد قبل التصحيح، الذي أطاح بالليرة السورية وكل وحداتها النقدية الأصغر من قروش وفرنكات، فقبل ذلك التصحيح كان يتم التعامل بنصف الفرنك أي قرشين ونصف، وقبيل وفاة الأسد الأب كانت الليرة السورية وهي تساوي 100 قرش، قد سبقته بالوفاة، حين فقدت أي قيمة شرائية لها في السوق المحلية.

التصحيح الذي صنعه حافظ الأسد لم يدفن الليرة السورية والاقتصاد السوري فقط، بل دفن الدولة والمجتمع السوريين منذ وضع دستور 1973 الذي كفل له ولحزب البعث صلاحيات واسعة، إذ نصّت مادته الثامنة على كون حزب البعث هو "القائد للدولة والمجتمع" مما حوّل عقائده وأفكاره إلى أيديولوجيا مهيمنة على المجتمع ومؤسسات الدولة السورية، بحيث لم يتوقف حزب البعث فيها على احتكار السلطة السياسية، بل احتكر المجال العام السياسي والثقافي إضافة للإعلام والتعليم والاقتصاد، وصولا لاحتكار المؤسستين العسكرية والأمنية، وبشكل خاص في ظل تأبيد قانون الطوارئ المعمول به منذ انقلاب آذار 1963، وحتى بُعيد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، والتي أجبرت الأسد الصغير على تصحيح جديد بإلغاء قانون الطوارئ، واستبداله بقانون لا يقل عنه سوءا واستبدادا ألا وهو قانون مكافحة الإرهاب. 

فأية "معجزة" يمكن أن تنقذ اللجنة الدستورية أو تنقذ سوريا غير رحيل هذا النظام؟