الكراسي الموسيقية

2020.12.07 | 23:02 دمشق

syrian-in-jeneava.jpg
+A
حجم الخط
-A

ورد في الأخبار، أن وفد "الحكومة" السورية المشارك في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف قد انسحب من الجلسة الختامية التي عقدت منذ عدة أيام بعد جولة "مفاوضات" جديدة تتعلق بـ "الثوابت الوطنية".

وقد وقع هذا الانسحاب بعد أن قام أحد أعضاء وفد "المعارضة" بقراءة بيان ندّد من خلاله بالدور الإيراني المباشر أو عبر ذراعه حزب الله اللبناني في المقتلة السورية. ولم يُعدّل هذا الانسحاب الاستعراضي من قرار المبعوث الأممي غير بيدرسون بالخروج راضياً من هذه الجولة والإعلان عن عقد الجولة القادمة لمحادثات اللجنة في نهاية الشهر الأول من العام القادم.

ومع أنني حاولت سابقاً أن أبتعد عن الخوض في الأزمات البنيوية في المعارضات السورية ومكوناتها، ليس إعجاباً بالأداء الأعرج إلى حد الشلل، ولكن تجنّباً للانغماس في جدل عقيم حول الأسباب التي ساهمت في أن يكون للسوريين هيئات معارضة بهذا الشكل المفجع، إلا أنني أشعر بالاضطرار لكي أتوقف، وللمرة الأولى، عند معاني هذا الخبر.

سيناريوهات الحلول ستُنجز بعيداً عن جنيف واجتماعاتها، وغالباً ما سيتم إقرارها في إطار اتفاق روسي ـ أميركي يضع حداً لهذا النزيف البشري والاقتصادي والأخلاقي.

لا يرتبط الأمر حتماً بأهمية لا تذكر لمثل هذا التفصيل الذي يعبر في هوامش بعيدة عن تركيز العاقل، بل لمصادفة نشره بعد ساعات من سماع تصريح لأحد أعضاء وفد "المعارضة" المشارك في هذه اللقاءات في حوارٍ افتراضي مع مجموعة من المهتمين بالألم السوري. لقد أجاب المعارض على تساؤل بريء من أحد الحضور حول ما يجري في مباحثات هذه اللجنة والهدف المنشود من وراء متابعة حضورها، بالقول إنهم "لا يفعلون شيئاً مهماً" وبأن جميع المشاركين من الأطراف الثلاثة، حيث هناك أيضاً وفد "المجتمع المدني"، يعرفون بأنهم لم ولن يؤثروا في مجريات الأحداث القائمة والتي ستقوم، وبأن دورهم تزييني، وبأن لا فائدة تذكر من حواراتهم ومما سيتوصلون إليه أو لن يتوصلوا. كما أضاف بأن سيناريوهات الحلول ستُنجز بعيداً عن جنيف واجتماعاتها، وغالباً ما سيتم إقرارها في إطار اتفاق روسي ـ أميركي يضع حداً لهذا النزيف البشري والاقتصادي والأخلاقي.

ما صرّح به هذا العضو ليس بالأهمية التي تدفع للتوقف عنده، فهو من البديهيات التي يعرفها طلاب المدارس الابتدائية في بانكوك عن الملف السوري. بالمقابل، فقد حرّض بي هذا التصريح الصريح ردة فعل تكاد تقارب الغضب ولا تتجاوزه. ودفعني هذا الاعتراف غير المهم لكي أنتقل من التحليل السياسي الموضوعي إلى التصريح الإنساني "الفج" والمباشر. فيا إخوتي وأخواتي أعضاء الوفود غير الحكومية وغير المحكومة، ولدي منهم أصدقاء وأعزاء، ماذا أنتم بفاعلين؟

من المؤكد بأن وفد "الحكومة" مُكلّف، كما "مجتمعه المدني"، بلعب دور مرسوم بعناية من قبل الأجهزة المختصة. وأفراده يمتهنون التمثيل غير المتقن وإضاعة الوقت وإغراق الجميع بالتفاصيل عملاً بوصية وليد المعلم الذي كان قبل رحيله منذ أسابيع يحمل تسمية "وزير الخارجية". فهم إذاً مجموعة بشرية مجرّدة من خصائص عدة ومغلوب على أمرها ولا حرج عليها، حتى لو كان بعضها ممن هو مقتنع بدوره أيديولوجياً. أما أعضاء وعضوات وفد "المعارضة" و"مجتمعها المدني"، فما هو هدفهم من المشاركة في هذه المسرحية العبثية؟

أمام ما تقدم، سيقفز أحدهم للقول بأنه لا يجب "ترك الكرسي فارغاً". وهذه العبارة الأسهل. ومن اجترع هذه العبارة تاريخياً، لم يقصد بها بالتأكيد قطعة الأثاث الخشبية أو الحديدية العارية أو المغلفة بالجلد أو بالقماش التي يجلس على متنها الإنسان. وتتردد هذه العبارة في أطر يكون فيها الظن نسبي بإمكانية تحقيق ولو خطوة ضئيلة باتجاهٍ إيجابي. فما داعي المشاركة في هذه المسرحية المفرّغة مسبقاً من أي محتوى، وعلى علم السيد المبعوث والسادة والسيدات الحضور؟ عدا عن أن الوجود في القاعة الأممية الجميلة يقارب أو يكاد يُطابق قطع الأثاث الأخرى الموزعة بدقة فيها.

من يقتنع بكفاية النص، فعليه أن يعتمد القائم من النصوص ويسعى لتطبيقها ولا يخترع الدولاب وكفى الله المفاوضين عبث الحوار

وإن فقدت معزوفة الكراسي الفارغة قدرتها على الاقناع، سيقفز أحد آخر للقول بأنهم يناقشون في اللجنة أموراً مهمة على الرغم من معرفتهم بأنه لن يؤخذ بشيء منها. مضيفين بأنه على الأقل يمكن أن تساعد يوماً حينما يصدر قرار الحل من القوى المهيمنة. وهنا المنطق أقوى من منطق الكراسي والطاولات، لكنه يبقى ضعيفاً بالمطلق. فأهم ما في العملية الدستورية، كما علمت الأُمّي تجارب الأمم، هو المسار وليس النص. ومن يقتنع بكفاية النص، فعليه أن يعتمد القائم من النصوص ويسعى لتطبيقها ولا يخترع الدولاب وكفى الله المفاوضين عبث الحوار.

وفي حفلة القفز هذه، من المنتظر أن يخرج أحدهم ليقول بأن هذا النشاط الممل هو ترجمة لإرادة الدول المؤثّرة في الملف السوري ويتم برعاية أممية. ومن يعتقد بذلك، لا بد من أنه سيد العارفين بأن الفكرة روسية المنشأ منذ طورها الجنيني، وما تبنّي الأمم المتحدة لها والقيام بلعب دور متعهد التنفيذ فيها إلا تعبيرٌ فاضحٌ عن عجز هذه المنظمة الدولية الذي تكاد تبرع في ترسيخه منذ اليوم الأول للمقتلة السورية.

إن كنتم على دراية بأنكم غير قادرين على الخروج بشيء يُذكر، ولو حتى بنص استسلام وخنوع، فماذا أنتم بفاعلين؟ اتركوا الكراسي فارغة واستعيضوا عن هذا الضباب بلعبة الكراسي الموسيقية التي تجيدونها في هيئاتكم منذ فجر النشوء.