"القبيسيات".. هل هنّ وجه دمشق "الحقيقي"؟

2022.10.14 | 04:28 دمشق

"القبيسيات".. هل هنّ وجه دمشق "الحقيقي"؟
+A
حجم الخط
-A

انفجر مجدداً ذلك الجدل، الذي كلما خفتَ، صعد من جديد، مع تقصّد النظام، تصدير جماعة "القبيسيات"، بوصفهن نموذجاً يختصر موقف المجتمع الدمشقي، حياله. المناسبة الأخيرة لتفجر ذاك الجدل، تمثّلت في فيديو ينقل نظرات "إعجاب" رشقت بها "قبيسيات" رأس النظام بشار الأسد، فيما كان يكيل لهن إحدى مواعظه "الفكرية"، على هامش الاحتفال بالمولد النبوي في الجامع الأموي بدمشق، قبل أيام.

ورغم أن الجدل الذي نقصده، ربما انحصر في نقاشات لسوريين عبر "السوشال ميديا"، هذه المرة، ولم يرتقِ إلى مستوى الجدل بين النُخب المثقفة، كما حدث في مرات سابقة.. إلا أنه كان، وما يزال، يعبّر عن قناعات وفرضيات شائعة بكثافة في أوساط شريحة كبيرة من الجمهور السوري. خطورة هذه القناعات تأتي في جانبين، الأول أنها تعبير عن "مناطقية" لطالما أضرّت بالنشاط الحركي والسياسي وحتى المسلح، المعارض، طوال العقدية الفائتة، وما يزال. ناهيك عن ضرره على مستقبل العلاقة بين ألوان الطيف السوري. أما الجانب الثاني فيتمثّل فيما تقوم عليه تلك القناعات والفرضيات، من تبسيط وسطحية، تغيب عنها أدنى أشكال المحاكمة المنطقية، في تعبيرٍ عن رواج التفسيرات الشعبوية في أوساط عموم السوريين، وهو ما يمكن ملاحظته في كثيرٍ من الجدليات بينهم، في قضايا مختلفة. يعزز هذا الاتجاه، ترصد وسائل الإعلام، على اختلاف توجهاتها، لما يمكن أن يثير التفاعل الجماهيري، وهو ما يضيف دعماً آخر للتفسيرات الشعبوية.

من يقول إن "القبيسيات" يعكسن المجتمع الدمشقي ومهادنته للنظام، يتجاهل وقوف أبرز الكيانات والشخصيات الدينية ذات الثقل الشعبي، إلى جانب الثورة في بداياتها

ويتأتى الجدل حول "القبيسيات" من فرضية أولى، مفادها أن هذه الجماعة "النسوية" الدينية، تمثل مرآةً للمجتمع الدمشقي. ويعكس تحالفها مع النظام، موقف هذا المجتمع، منه. وكما أشرنا أعلاه، تتصف الفرضيات والقناعات الشعبوية الرائجة في هذه القضية، بتبسيط وسطحية كبيرة، كما أنها تعبّر عن جهل هائل بطبيعة المجتمع الدمشقي، وبتاريخ "جماعاته" الدينية، حتى ذاك القريب للغاية. فمن يقول إن "القبيسيات" يعكسن المجتمع الدمشقي ومهادنته للنظام، يتجاهل وقوف أبرز الكيانات والشخصيات الدينية ذات الثقل الشعبي، إلى جانب الثورة في بداياتها. من ذلك مثلاً، جماعة الميدان، والشيخ كريّم راجح. وجماعة "زيد"، والشيخ أسامة الرفاعي. دون أن ننسى الداعية صاحب الأثر الكبير في الشارع الدمشقي، محمد راتب النابلسي.

أما الفرضية الثانية التي تقول إن "القبيسيات" تعبير عن طبقة الأثرياء بدمشق ومواقفهم، يتجاهل القائلون بذلك، الحراك الذي نشط في بدايات الثورة، بمسجد الشافعي البارز في حي المزة الراقي، الذي أصبح في ذلك التاريخ، مركزاً للنشاطات المناوئة للنظام. كما ويتجاهل الحراك الذي حدث انطلاقاً من مسجد الرفاعي –سابقاً- في حي كفرسوسة الثري، والذي كان لا يبعد سوى أمتار قليلة عن تجمع مقار أجهزة الأمن الأشهر، بالعاصمة.

الجدل حول لماذا لم تنتفض دمشق، عن بكرة أبيها، في بدايات الحراك الثوري عام 2011، كان وما يزال يتجاهل –قصداً أو جهلاً- عدم التجانس الاجتماعي – المناطقي بين سكان دمشق

أما في أشهر الفرضيات حول "القبيسيات"، والتي تختصر المجتمع الدمشقي، بثلة تجار متحالفين مع النظام، بذريعة عدم حدوث حراك جماهيري ضخم في العاصمة، على غرار ما حدث في مدنٍ كحماة وحمص ودير الزور، ينسى القائلون بذلك، أو يتناسون، جانباً على درجة عالية من الأهمية، أن دمشق ليست مدينة متجانسة اجتماعياً ومناطقياً، وهي لا تعبّر عن الدمشقيين، إلا في بعض أحيائها فقط. وهنا، حينما نقول الدمشقيون، تجب الإشارة إلى أن ذلك لا يُقصد به سكان دمشق. إذ كما هو معلوم –والذي يتم تجاهله دوماً في النقاشات حول موقف الدمشقيين من الثورة-، فإن العاصمة يسكنها خليط ينحدر معظمه من مختلف المدن والمحافظات السورية. وفي ذلك صدرت دراسات محدودة قبل العام 2010، تحاول الإجابة عن سؤال: كم نسبة الدمشقيين الأصليين -المتحدرين من دمشق لثلاثة أجيال على الأقل- من سكان دمشق؟ وكانت الإجابات دوماً تعطي هذه النسبة أقل من النصف، أو أكثر بقليل. ومن سكن دمشق وخبرها لفترة طويلة، يعلم أن المجتمع الدمشقي يظهر بتجلياته الخاصة به، في بعض أحياء العاصمة، وليس في جميعها. أبرز تلك الأحياء، الميدان والمزة وكفرسوسة. وهي الأحياء ذاتها التي شهدت انتفاضات ضخمة في بدايات الثورة، وتعرضت لقمع شديد. وقد أشرنا أعلاه، إلى أن الكيانات والشخصيات الدينية ذات الأثر الشعبي الكبير، في تلك الأحياء، انحازت جميعها، للحراك الثوري، في بداياته. وقد تعرضت للتنكيل والقمع، وتحولت إلى المنفى، وشكّل أبرز رجالاتها، ما بات يُعرف لاحقاً، بالمجلس الإسلامي السوري، المعارض.

الجدل حول لماذا لم تنتفض دمشق، عن بكرة أبيها، في بدايات الحراك الثوري عام 2011، كان وما يزال يتجاهل –قصداً أو جهلاً- عدم التجانس الاجتماعي – المناطقي بين سكان دمشق، الأمر الذي لا يتيح خلق مظلة أمان اجتماعي تشجع على حراك ضخم، على غرار ما حدث في مدن أخرى تتمتع بدرجة أعلى بكثير من التجانس. ناهيك عن تجاهل مدى قوة القبضة الأمنية في العاصمة، حيث لا تشيع ثقافة حمل السلاح، وتتدنى مستويات التماسك الاجتماعي العائلي، خلافاً لما هو شائع في الأرياف.

لكن هل يعني ذلك أن الدمشقيين موالون للأسد، أو أن "القبيسيات" يختصرن تمثيلهم؟ تبدو الإجابة بنعم، تحمل درجة عالية جداً من العَسَف حيال واحدٍ من أكثر المجتمعات السورية، التي لطالما حُمّلت أكثر مما تحتمل، وقُرئت بسوء نيّة نابع من مشاعر مناطقية، عمل النظام دوماً على تعزيزها بين السوريين، باختلاف ألوان طيفهم وحساسياتهم، وحصد ثمارها صراعاً وصل إلى درجة الاقتتال –في بعض الأحيان- بين بعض فصائل المعارضة في مراحل من الحراك المسلح، خلال العقديّة الفائتة.