الفوضى الخلاّقة والقِطَاع الأمني السوري

2020.01.31 | 23:05 دمشق

images_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

سنة 2003، كانت العلاقات السورية الفرنسية في أوجها نتيجة تدخل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري لدى صديقه جاك شيراك، ولرهانات خاسرة خارجية وضعها رؤساء أوروبيون في إمكانية التغيير السياسي والاقتصادي في سوريا، كما لرهانات خاسرة وضعها بعض السوريين في مطلع مسيرة التحديث والتطوير في إمكانية تحررهم من القبضة الأمنية التي تحبس أنفاسهم منذ عدة عقود، كانت الأجهزة الأمنية تتابع عملها بكل نشاط وتصميم، دون ظهور أية ميول لا لتحديث عملها أو لتطوير سياساتها. كما أنها تابعت، منتشية بانتصارها المبين في تحقيق التوريث الهادئ للجمهورية من الأب إلى الابن، مراقبة الناس في مخادعهم ومتابعة النشطاء في أحلامهم وقمع المتفوهين بآمالهم. وتسلّحت من أجل تعزيز هذا المسار، بصمتٍ شريكٍ متواطئٍ من قبل دول عوّل عليها بعض السوريين في اتخاذ مواقف نقدية تجاه ممارسات ترقى الى عصور وسطى أوروبية.

وفي المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في حلب، كانت العين / العيون الأمنية الساهرة مستمرة في متابعة المحاضرات والمعارض والنشاطات الفنية مهما ابتعدت عن السياسة. وفي هذا المناخ الآمن، وفي يومٍ ربيعيٍ، استضفت في المعهد عالم آثار فرنسي ليحدثنا عن آخر الاكتشافات التي حققتها البعثات العاملة في إطار المعهد الفرنسي، وخصوصاً، ما قامت به في منطقة المدن المنسية أو الميتة والتي أصبحت اليوم مدمرة. وكان الحضور كبيراً وفي مقدمتهم المدير العام للمعهد الذي حضر خصيصاً من دمشق لحضور هذه الفعالية الثقافية / العلمية المتميزة.

وكان الحضور كبيراً وفي مقدمتهم المدير العام للمعهد الذي حضر خصيصاً من دمشق لحضور هذه الفعالية الثقافية / العلمية المتميزة. وهو متخصص في العلوم العربية في العصور الوسطى، ومستشرق تقليدي يفخر بعلاقاته مع رؤساء أجهزة أمنية في دمشق حيث كان يلعب معهم الطاولة في مقاهيها. وهو شديد الدبلوماسية إلى حد النفاق مع السلطات المحلية، ويدعو باحثيه دائما إلى الابتعاد عن "وجع الرأس" وعدم الخوض في أبحاث ودراسات مرتبطة بالحدث المعاصر.

وفي استشراقية متطرفة، أشار لي المدير بأنه لن يرضى بحضور أي جهاز أمني في القاعة، مهدداً بالاتصال فوراً بمعارفه الأمنيين في دمشق، وعلى رأسهم، رئيس إدارة أخطر وأعتى الأجهزة. فحاولت إقناعه بتمرير الأمر وبأن العنصر الأمني لن يفعل سوى كتابة بعض الجمل على دفتر القصاب الذي يحمله في حقيبته الصغيرة من الجلد الاصطناعي المهترئ الى جانب المسدس. ونتيجة إصرار المدير / المستشرق، توجهت إلى العنصر متردداً بشدة معزّيا النفس بأنني لست إلا بناقل للرسالة. وحينما اقتربت منه، سلّم بحرارة واحترام، فقفزت على الفرصة لأنقل له بكثير من التشذيب طلب المدير صديق أسياده في الأجهزة الأمنية كافة. وبعد السؤال عن الحال اقترفت المحال طالباً منه المغادرة مرفقاً هذا الطلب بكثير من القلق المصطنع على مصيره الوظيفي إن قام المدير / المستشرق بتنفيذ تهديده ووعيده واتصل بالمعلم الكبير في دمشق.

وفي استشراقية متطرفة، أشار لي المدير بأنه لن يرضى بحضور أي جهاز أمني في القاعة، مهدداً بالاتصال فوراً بمعارفه الأمنيين في دمشق

رمقني العنصر الأمني بنظرة ملؤها الإشفاق و "الحكمة"، وبعد أن استهل رده باعتذار شديد على ما سيتفوه به من موبقات الكلام، وبعد أن أكد لي بأنني لست معنياً بما سيقول سوى دوري كرسول الكلام، أصدر صوتاً قوياً من فمه يعني باللهجة الأمنية: كلا. حينها حاولت التأكيد على حرصي عليه وعدم رغبتي في أن يقوم المدير بإيذائه إن هو اتصل برؤسائه. فازدادت نظرته إشفاقاً ليقول لي وبالحرف الواحد: "قل لمديرك، تبّاً له وللواء مدير الإدارة صديقه". وبالطبع، ورد على لسانه التعبير الأدق من تبا له ولكن ضرورة التهذيب تدفع الى استعارة ترجمة العرب لعبارات الأفلام الأميركية في العموم.

أضاف العنصر الأمني مستطرداً، خصوصاً عندما لاحظ استغرابي وصدمتي من عبارته، فقال: "فليحضر رئيس الجمهورية ـ وهو الوريث إياه ـ إلى هنا ويطلب مني الخروج، لن أخرج". فصار استغرابي مضاعفاً وبدأ التعرّق يحتل زوايا جسدي، ليُضيف: "الله لدي هو رئيس المباشر ولا أعترف بسواه"، مربتاً على كتفي "بعطف أبوي" وطالباً مني أن انقل ما سمعته، وبدقة، إلى المدير / المستشرق. وبعد زوال عنصر المفاجأة وبعد تجاوز الصدمة، فطنت إلى أن ما سمعته لتوي هو خلاصة واضحة عن بنية منظومة القطاع الأمني في سوريا. وبأن موقف العنصر الذي ربما لم يكن في رتبة رقيب حتى، هو الضمانة الأساسية التي عمل عليها النظام منذ نشوئه لمنع تكوّن مراكز قوى ولمنع تواصل المؤسسات الأمنية ولمنع أية سلطة تراتبية في أجهزته المتعددة والمتوازية. فهذا العنصر يأتمر بما يقوله له من هو أعلى منه مباشرة دون الاستماع إلى من هو أعلى من الأعلى. أي أنه سيبصق في وجه كل من دعاه إلى تغيير مكانه أو دوره مهما علت رتبته السياسية أو الأمنية.

وتأكدت حينها بأن رؤساءه، كما رئيس جمهوريته، سيكونون في قمة السعادة والتي تكاد تلامس النشوة حينما يعرفون بموقفه المهني والملتزم. وسينامون قريري العين في ظل سيادة الفوضى الخلاقة في أجهزتهم الأمنية الساهرة على أمنهم وأمانهم.

عدت إلى المدير / المستشرق، أحمل جرعة من الغضب الكامن وشيئاً من الحسرة الظاهرة، وقلت له بابتسامة فاجرة: "يقول لك العنصر، تبا لك ولمدير الإدارة خاصتك".