الفنان حاتم علي والشهيد أبو شاكر

2021.01.05 | 00:01 دمشق

hatem.jpg
+A
حجم الخط
-A

سقطت دفعة من صواريخ "الغراد" على الجبهة الشمالية، فاهتزت البنايات حولي بعنفٍ، ثم تسللت مجموعة من جنود الحرس الجمهوري إلى مفرق جمعية "الطيران"/جمعية "الريف"، وبدأت بإطلاق رصاصها نزولاً باتجاه "الحارة الصخرية"، حيث يقع الفرن الآلي، وابتدائية قدسيا المختلطة الأولى، رد عليهم عناصر الجيش الحر، فهرب الجنود، فاقتربت بدلاً عنهم، سيارة دفع رباعي، تحمل مدفعاً مضاداً للطائرات من عيار (23) مم، وفتحت نيرانها بذات الاتجاه، تسببت نيران المدفع بتحطم واجهة شرفة الشقة الزجاجية، حيث كنت موجوداً على الخط الأول، دون سلاح، فسارعت للاختباء خلف جدار، لم أكن أبعد عنهم أكثر من 20 متر، ثم عاود الجنود للتسلل وإطلاق النار..

حين كان مدفع مضاد الطائرات يطلق حممه، شعرت بغصة في قلبي، أحسست حينها أني فقدت أحدهم، شخصٌ عزيزٌ عليَّ قد استشهد الآن، أنا متأكد، ولحد هذه اللحظة لا أعرف السبب الذي دفعني لذلك الشعور حينها، ومعرفتي مباشرةً هوية ذلك الشهيد، دون أن أراه.

قبل ثلاثة أسابيع أو نحوه، من ذلك اليوم التقيت "أبا شاكر" قرب الفرن الآلي، كان يوم وقفة عيد الفطر، تمشينا سوياً نحو ساحة قدسيا، وتوقفنا قرب محل خالي تماماً، كنت نتحدث عن احتمالات المعركة القادمة، ومدى جاهزيتنا، وكان "أبو شاكر" مبتسماً، شجاعاً، متفائلاً كعادته، كلانا لا يعرف شيئاً عن نشاط الآخر، أو فيما كنا منتمين لإحدى المجموعات أو لا، ولكن حين وصلنا إلى درجات سلم محل خالي، ضحك "أبو شاكر" وهو ينظر إلى غلق المحل المقفل، وقال: شو ما رجع هالجبان؟، فضحكت، وأجبته: أنت بتعرفو أكتر مني..

والجبان ذاك هو ابن خالي الأكبر، صديق طفولة "أبي شاكر"، وزميله في الخدمة العسكرية، حيث خدما سويةً أواسط التسعينات، في إحدى قطع الصواريخ السرية في منطقة جبال القدموس، في الساحل السوري، وهم شركاء في لعب الورق، والتجارة..

ابن خالي "الجبان" تاجر أحذية، يملك محلاً في ساحة قدسيا، كان يغلق محله، ويهرب، لحظة خروج أي مظاهرة ضد النظام، فيما كنت أنطلق مع "أبو شاكر" والآخرين، للمشاركة فيها، ونحن نضحك من ذلك "الجبان"؛ ورغم أن ابن خالي يكبرني بثمانية أعوامٍ، فلطالما كنت أقرعه، وأسمعه كلاماً ثقيلاً، ورغم كونه أيضاً، صاحب الفضل في تعرفي على "أبي شاكر"، في المقام الأول.

سيتحول ذلك الجبان إلى "نمرٍ" مسلحٍ بعد تهجيرنا عام 2016، ويرتدي بذة عسكرية مموهة، تحمل شعار "قوات الحرس الجمهوري".

سيصدم الكثيرون لمعرفة أن "أبا شاكر" كان فناناً، لأن مهنته في الواقع كانت "نجارة الباطون"، فما الذي يجعل من نجار باطون، فناناً؟

"أبو شاكر" لقبه، أما اسمه فهو "منذر مراد"، ابن عائلة "مراد" إحدى كبرى عائلات قدسيا، مواليد العام 1974، درس الابتدائية، والإعدادية في مدارس قدسيا، ثم ترك الدراسة، والتحق للعمل ب"الفن"، تزوج متأخراً، وأنجب طفلاً.

سيصدم الكثيرون لمعرفة أن "أبا شاكر" كان فناناً، لأن مهنته في الواقع كانت "نجارة الباطون"، فما الذي يجعل من نجار باطون، فناناً؟

تعرف السيد "نذير مراد"، صاحب ورشة نجارة الباطون، التي يعمل بها شقيقه "أبو شاكر"، إلى المخرج "نجدت إسماعيل أنزور" الذي طلب منه تنفيذ ديكورات إحدى أعمال التلفزيونية التاريخية، ونجح السيد "نذير" بالمهمة، ومن هنا، تفرغت ورشة السيد "نذير مراد" للعمل في تنفيذ الديكورات الفنية، لعدد من المخرجين السوريين، والعرب، من بينهم بالطبع المبدع الراحل "حاتم علي"، ولا سيما لمسلسله الشهير "الزير سالم"، الذي تم تصويره في منطقة "رخلة" غرب محافظة ريف دمشق، والذي شارك "أبو شاكر" في تنفيذ ديكوراته الكاملة، والتي تضمنت بناء قصور، ومضارب خيام، وبيوت، وبحيرة صناعية، وأبار، وغيرها؛ "أبو شاكر" كان فناناً بعمله، وفوق ذلك كان فناناً بأخلاقه، وأدبه، وبهذا يلتقي "أبو شاكر" مع الراحل "حاتم علي" بفنه، وأخلاقه، وأدبه؛ فكلاهما فنانٌ في مجاله المهني، وفنانٌ في مواقفه الإنسانية.

في الحقيقة لم يعجبني مسلسل "الزير سالم"، رغم أن "ممدوح عدوان"، و"حاتم علي" لا يجادل أحدٌ في موهبتهما وبراعتهما، لكني لم أكن يوماً معجباً بقصة الزير أصلاً، لذلك لم أشاهد المسلسل سوى مرة واحدة، وكنت أتابعه بصراحة لأني أعجبت ب(التيتر) الموسيقي ل"طاهر مامللي"، ولأشاهد الديكورات التي أبدعها صديقي، وأقرأ اسمه، "منذر مراد" في شارة الختام.

لطالما روى لي "أبو شاكر" عن تعامل مخرج مشهورٍ وكبيرٍ كحاتم علي، معهم كعمال، ومنفذي ديكور، بأدب واحترام، بالعكس تماماً مما رواه عن تعامل "نجدة أنزور" مع أغلب الفنانين والعمال، بوقاحة وقلة أخلاق، وإدمانه المسكرات بكثرة أوقات العمل، والعلاقات النسائية، وإدمانه القمار، الذي تسبب بطرده من قبل أحد المنتجين العرب، بعد أن بدد "أنزور" أموال مشروع تلفزيوني، في صالات القمار، مما أدى لتوقف العمل، وأكل مستحقات شهور من تعب العاملين، ومن بينهم السيد "نذير مراد"، وشقيقه "أبو شاكر"؛ وعليه ليس من الغريب أن يصل "نجدة إسماعيل أنزور" وهو بهذه المواصفات، لمنصب رئيس مجلس شعب النظام في سوريا، بينما تنتهي الحياة بالمبدع "حاتم علي" بأزمة قلبية في منفاه الإجباري.

حين التقيت الراحلة "مي سكاف" في باريس، أخبرتها أنها صارت لفترةٍ (فتاة أحلامي) في المراهقة، بسبب دورٍ أدته في أحد الأعمال، فسألتني: أنو دور؟، فأجبتها: دورك بمرايا 1998، ضحكت "مي" من قلبها، وقالت: صحيح.. صحيح، كانت تجربة حلوة كتير.. هلئ حبيتك.. ذكرني شو كان اسمك..؟.

للمصادفة فإن تلك التجربة الوحيدة للراحلة "مي سكاف"، المعروفة بأدوارها الجادة، في سلسلة "مرايا" الكوميدية، كانت من إخراج الراحل "حاتم علي".

الثامنة مساء 3/10/2012، توقف القصف، وانسحبت قوات الحرس الجمهوري، توجهت لمقر مجموعة "اليزن"، حيث كان الشهيد "الصوان" ينظف بندقيته، استعداداً لليوم التالي، تحدثنا قليلاً، وعلمت هناك أن اثنين من الأطفال، من أقربائي "أسامة وزيد أبو غوش"، مع خالهم العاجز، وابن خالهم الصغير، قد أعدمتهم قوات الحرس الجمهوري ميدانياً، بطلقات مباشرة في الرأس، فانطلقت باتجاه المشفى الميداني، في ساحة الأمل..

الدخان ينبعث من كل مكان، الشوارع تجري فيها سيول من المياه المختلطة بالسولار، المتسربة من خزانات الأبنية الممزقة، أغصان الأشجار، أحجار البناء، السيارات المحترقة، تسد الطرقات، الظلام دامس، رائحة بارود القذائف والصواريخ المنهمرة منذ الصباح، تصيبك بالغثيان، وألم الرأس، لكن رائحة أخرى أشد قبحاً، تبقي حواسك متنبهة، وترشدك في الظلام.. رائحة الموت، كانت الرائحة أشد مما أحتمل.

المؤدب، الخلوق، الشجاع، والمبتسم.. حتى في استشهاده.. والحقيقة، لا توجد نهايةٌ تليق بمثله إلا هذه

نزلت درجات المشفى الميداني، لتطالعني ابتسامةٌ تكشف أسناناً بيضاء كما عهدتها، لحية شقراء جميلة ومرتبة، وشعرٌ أشقر مسرحٌ إلى الخلف، كان "أبو شاكر" ممدداً بوداعةٍ بين الشهداء، وبجانبه بندقيته، وجعبته، كان إحساسي يخبرني مذ شاهدت مدفع الطائرات، أني سأجده هناك، ولأتأكد، سألتهم: متى أصيب "أبو شاكر"، فأجابوا: بعد العصر..

المؤدب، الخلوق، الشجاع، والمبتسم.. حتى في استشهاده.. والحقيقة، لا توجد نهايةٌ تليق بمثله إلا هذه.

كانت رائحة المشفى، مزيجاً من رائحة الدماء، والرصاص، والمواد الطبية، لكن ليس ثمة رائحة موت كريهة؛ صعدت درجات السلم، وما أن وصلت إلى الشارع، حتى عادت الرائحة الكريهة لتضرب صدغي.

سأكتشف بعد دقائق، من أين كانت تأتي تلك الرائحة القاتلة..

كلمات مفتاحية