الفصول الأربعة: رثاء قاهرة الستينيات

2020.08.09 | 00:02 دمشق

11201511145554157msr-zman-msr-fy-alshta-msr-fy-alkhmsynat-msr-alqdymt-7.jpg
+A
حجم الخط
-A

وقفت أمام رف كتب السير الذاتية والمذكرات، أبحث عن سيرة أعيش معها تجربة مختلفة، وأتعرف عن طريقها عالما جديدا، رأيت كتابا بعنوان "الفصول الأربعة: سيرة حياة" للكاتب معن زيادة، وأخذت السيرة إلى البيت وبدأت في قراءتها، يلخص الكاتب حياته في أربع مدن وكأنها أربعة فصول، الفصل الأول عن طفولته في طرابلس والفصل الثاني عن شبابه في القاهرة وحياته الجامعية فيها، والفصل الثالث عن مونتريال ودراسة الماجستير بإحدى الجامعات هناك، وفي الفصل الرابع يحكي عن العودة لبيروت، وانتهيت من فصول الكتاب الأربعة ولم أجد في الكتاب فصلاً ربيعياً جميلاً مثل ذكرياته في القاهرة. الفصل الأول يستغرق في حكايات عن طفولته وفي مونتريال يحكي عن النظام التعليمي وتجربته في الماجستير.

سافر معن زيادة للدراسة في القاهرة وكان قد انجرف في العمل السياسي مع القوميين العرب، وسافر إلى مصر بالباخرة من اللاذقية إلى الإسكندرية، وكانت الرحلة الوحيدة التي يجربها الكاتب بالباخرة ويصف مشاعره وهو يرى ابتعاد المدينة عن النظر، وهو في الباخرة بين الماء والسماء، ويحس بشيء من الغربة يصحبه رهبة.

وصل كاتبنا إلى القاهرة وأصبح عضواً في اللجنة المسؤولة عن فرع حركة القومييين العرب في القاهرة، وتم تكليفه بالتواصل مع اليمنيين الذين عاشوا في القاهرة في تلك الفترة، وكانت اليمن ما تزال تحت حكم الإمام أحمد، وتعرف على القاضي أحمد محمد النعمان، والشاعر اليمني محمد محمود الزبيري، أما علاقة الصداقة الوثيقة فربطته مع لاجئ سياسي يمني كان له شأن كبير في السياسة فيما بعد، هو قحطان الشعبي، الذي أصبح رئيساً للجمهورية في اليمن الجنوبي، وكان قحطان الشعبي هو المدخل الذي تعرف عن طريقه معن زيادة بعالم اليمن وتقابل مع أبرز شخصياتهم التي كانت تعيش في القاهرة، واستفاد اليمنيون من المناخ الذي وفرته ثورة يوليو 52 وقاموا ببث الدعاية المعارضة لحكم الإمام من إذاعة صوت العرب في القاهرة.

سكن معن زيادة في حي الزمالك في القاهرة، ونراه يحكي لنا تعرفه على مثقفي المدينة في تلك الفترة، وكيف رأى القاهرة مدينة حية بالنشاط الثقافي. يحكي عن آل النقاش، وعن صداقته مع الشاب الناقد وحيد النقاش الذي توفي في العشرينات من عمره، وحزن عليه كاتبنا حزناً شديداً، ويصفه وصفا جميلا: "كان ناحلاً جداً وجميل الوجه أزرق العينين حنطي البشرة، ولقد وجدت فيه الند المناسب رغم إفلاسه الدائم واستعانته بي في كثير من الحالات". وكان وحيد ينادي معن بالصديق الآسيوي، ثم تعرف على أخيه الناقد الأدبي رجاء النقاش الذي كان يشق طريقه سريعاً وقد كتب رجاء مقدمة جيدة لديوان أحمد عبد المعطي حجازي "مدينة بلا قلب"، ولكن عباس العقاد لم يكن يحب حجازي ولا صلاح عبد الصبور وهذا النوع من الشعر، لذلك انتقد العقاد رجاء النقاش وكان يشير إليه باسم الآنسة رجاء على سبيل السخرية ويطلق على أدب هؤلاء الأشخاص الأدب القرمزي إشارة إلى أنهم من اليساريين وكان يبالغ أحياناً على عادته فيقول أدب الفراش.

يحكي معن زيادة عن رأيه في كثير من الشخصيات التي التقى بها في القاهرة، فهو يرى أن رجاء أخذته الصحافة كمصدر عيش، مما أدى إلى ابتعاده عن الأدب والنقد، وأنه كان مشغولاً بتحسين وضعه المادي خصوصا بعد أن تزوج ابنة أحد المرموقين (عبد القادر حاتم) الذي عمل وزيراً للإعلام.

في القاهرة يجلس معن زيادة في مقهى هافانا، حيث يجلس رجاء النقاش والناقد أنور المعداوي، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وينضم لهم أحياناً الدكتور عبد القادر القط الذي يصفه بالمفكر الهادئ والمرموق، وكان دائماً يحمل كثيرا من الأفكار الجديدة.

عن طريق صداقته مع رجاء النقاش تشجع معن زيادة لكتابة قصة قصيرة وعرضها عليه وهي من وحي تجربته في القاهرة، ثم عمل معن مراسلاً لمجلة الحرية التي تصدر في بيروت، وأتاح له عمله الصحفي إجراء مقابلات مع المؤلفين في ذلك الوقت والتقى مع الصحفي أحمد بهاء الدين الذي يحبه كثيراً، وشدَّه في أحمد بهاء الدين تواضعه وحسه العربي وتبنيه الفكر القومي، وكان يعتبر بهاء نجم الصحافة المصرية، وعندما يقارن بين بهاء وهيكل، يقول في الفرق بين الرجلين: بهاء متواضع ومحبته تشدك إليه شداً، وهيكل متعال ومعتد بنفسه وهذا يجعل من يقابله غير قادر على دخول عالمه بسهولة.

قام معن زيادة بالكثير من الحوارات مثل حواره مع ساطع الحصري أبي خلدون المفكر القومي، حيث كان يقيم في بانسيون متواضع غير بعيد عن ميدان التحرير، وكذلك قام معن باستفتاء للمثقفين بعنوان "عاصمة الثقافة العربية: بيروت أم القاهرة؟" وقابل نجيب محفوظ وعرض عليه السؤال، وامتدح نجيب محفوظ بيروت وذكر أسماء مؤسسات وأعلام من لبنان، وكان يميل إلى أن بيروت عاصمة للثقافة العربية، وكان نجيب متواضعاً في رده، ويصفه معن بالطيبة واللطف، وعندما نشر روايته أولاد حارتنا ومنعت في مصر، أخذ معن سهيل إدريس إلى نجيب محفوظ وعرض سهيل نشر الرواية في دار الآداب خارج مصر.

يرينا معن زيادة حلقة نجيب محفوظ ومن يحضرها من الأدباء والمثقفين، وكان يزور هذه الجلسىة أحياناً الأديب يحيى حقي الذي يصفه بأنه من أطيب الأدباء وألطفهم وأكثر إبداعاً، وكان أدبه الساخر بهدوء ومحبة قريبا من شخصيته، ويقارن معن زيادة بين سخرية يحيى حقي وسخرية الكاتب محمود السعدني، كتابة السعدني تجعلك تضحك وأنت تقرأ شتائمه وتشنيعاته ومبالغاته، والواقع أن أدب كل منهما يمثل شخصية الكاتب: فأدب يحيى حقي هو شخصه الطيب الهادئ المبتسم الساخر البرجوازي أوا الجنتلمان أما أدب السعدني الساخر فهو أدب ابن البلد الذي يرفع صوته عالياً ولا يتورع عن التشابك بالأيدي مع الخصوم والتناطح بالرؤوس عند الحاجة واستنفاد قاموس الشتائم.

بعد الجلسة في حلقة نجيب محفوظ في مقهى صفية حلمي يتوجه معن إلى كشك لبيع الكتب والمجلات، ومن هذا الكشك حصل على كتب السلاسل الثقافية التي كانت تصدر في القاهرة في ذلك الوقت مثل: سلسلة المسرح العالمي، الألف كتاب، أعلام العرب وغيرها، وفي بعض الأحيان ينتقل من حلقة نجيب محفوظ إلى سور الأزبكية بحثاً عن كتاب قديم، وكانت مصدراً مهماً لذوي الدخل المحدود.

القاهرة في مذكرات معن زيادة مدينة ثرية، تستضيف المعارضين واللاجئين السياسين، وتزخر بالحلقات والجلسات الثقافية، هناك صالون العقاد الذي لا يحب معن زيارته ويراه قد انطفأ بريقه، فهو يحب العقاد الشاب الذي يصدح بالتجديد ونقد القديم، ولا يهتم معن بما كتبه العقاد بعد ذلك، وهناك المسارح والمعارض الفنية والمحاضرات والمراكز الثقافية، وكان المسرح المصري في حالة ازدهار نظراً لرعاية الدولة له ولجهود وزير الثقافة ثروت عكاشة، لذلك قدم المسرح القومي أعمالاً مميزة، وبجولات معن زيادة تعرف على دور النشر مثل الهلال ورئيس تحريرها مصطفى نبيل.

كان دائم الزيارة لدار روز اليوسف وتعرف على إحسان عبد القدوس، وفي دار روز اليوسف تعرف على نجوم الكاريكاتير مثل صلاح جاهين وجورج البهجوري الذي ربطته صداقة طويلة به ويمدح فنه ورسوماته كثيراً، ويقص علينا قصة زيارة جورج البهجوري إلى بيروت واصطحابه الصحفي والمذيع مفيد فوزي الذي أصبح رئيس تحرير مجلة صباح الخير. يتميز معن زيادة بالصراحة الشديدة في آرائه بمن يقابلهم فهو يصف مفيد فوزي بأنه: "صحفي تافه وانتهازي ويمثل نموذجا لمدعي الصحافة الذين يتسلقون ويصلون عبر السلالم الخلفية".

هناك سمة في حكايات معن عن حياة القاهرة: يذكر من أحبهم من المثقفين وتعلم منهم، وكذلك يهجو من لم يعجبه ولم يرق له ما قدمه، من الذين يقدرهم كثيراً الدكتور توفيق الطويل أستاذ الفلسفة المترفع عن الصغائر وطيب العشرة، وكذلك يمدح أستاذه مصطفى حلمي الذي حببه في التصوف، وأحمد فؤاد الأهواني الذي فتح عينه على بعض المسائل العميقة في الفلسفة الإسلامية، وكذلك يتحدث بتقدير عن يوسف مراد أستاذ علم النفس.

وقد تعلم معن زيادة على يد زكريا إبراهيم أستاذ الفلسفة الذي كان موضع اتهام دائم من قبل المخابرات، فهو قبطي متزوج من فرنسية، ويحكي لنا عن معاناة زكريا إبراهيم المادية وعن عمله بالترجمة وهذا يذكرنا بما كتبته عايدة الشريف عن المؤلفين وأجورهم المتواضعة في سيرتها "شاهدة ربع قرن".

انعقدت بين معن زيادة وزكي نجيب محمود صداقة خاصة، ويحكي لنا عن زيارة زكي نجيب محمود لبيروت، وفي إحدى الجلسات التي حضرها أدونيس، انتقد زكي نجيب محمود شعر أدونيس أمامه، وكان أدونيس يصغي بإمعان ويناقش ويقبل النقد، لكن طابور الهجاء في حياة القاهرة ضم العقاد ومفيد فوزي الصحفي المتسلق، ولم يسلم منه غالي شكري الذي يمدح معن مواهبه لكنه يصفه بالمدعي، ويفتح معن زيادة النار على أستاذ الفلسفة عثمان أمين ويرينا الوجه الأكاديمي لهذا المترجم المعروف، وكذلك انتقد الشاعر محمد الفيتوري الذي اتهمه بالاستفادة من عطاءات القذافي.

يحكي معن عن القاهرة باعتبارها مدينة زاخرة بالطلبة والمثقفين من كل الأقطار العربية، كان يدرس فيها علي أومليل الكاتب المغربي في تلك الفترة، وتعرف معن على صدام حسين حين أقام في القاهرة، وربطته صداقة مع عدنان الراوي الشاعر العراقي الذي لجأ إلى مصر بعد أن حُكم عليه بالإعدام بعد معارضته حلف بغداد في عهد نوري السعيد، وتعرف على هشام الشاوي الذي أصبح وزيراً لخارجية العراق فترة قصيرة بعد ذلك، ومن الكويت تعرف على سليمان العسكري الذي شغل منصب رئيس تحرير مجلة العربي، وتعرف على الفنان السوري أدهم إسماعيل الذي تم منحه منحة تفرغ من وزارة الثقافة المصرية أثناء الوحدة. هكذا نرى القاهرة مدينة زاخرة بالنقاشات الثقافية والشخصيات السياسية والحياة الأدبية في تلك الفترة. ويستكمل معن شهادته عن عودته لبيروت وعمله صحفياً فيها وانخراطه في النشاط السياسي وآرائه في شخصيات عاشت في بيروت ثم رحلته للماجستير في مونتريال، افتقدت المذكرات اللغة الأدبية الرائقة وكانت أشبه بمقالة صحفية من أربعة فصول عن حياته بين أربع مدن، ونسبة الصراحة والاعتراف بالأخطاء قليلة فالكاتب يتميز بعين نقدية تصل إلى هجاء بعض من تعرف إليهم ولا يلوم نفسه أو مواقفه كثيراً، لكنها شهادة على حياة وتجربة نتعلم منها ولا نسلم بكل ما فيها من مدح أو هجاء.

كلمات مفتاحية