الفساد العابر للحدود

2021.12.17 | 05:55 دمشق

g45.jpg
+A
حجم الخط
-A

كتب سياسي زائيري ذات يوم: (كل شيء يمكن شراؤه في بلدنا، في هذا المناخ يصبح من يملك مثقال ذرة من السلطة، مسخرا لها لكسب المال والجاه. والمواطن الذي يطالب بمجرد احترام أبسط حقوقه، يصبح خاضعا لضريبة خفية، تؤدى رسميا للشخصيات الرسمية إلى درجة فقدان المجتمع طابعه السياسي، ليتحول إلى سوق واسع للتجارة).

لقد عرَّفت منظمة الشفافية العالمية الفساد، بأنه استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة. وعرَّفه البنك الدولي، بأنه إساءة استخدام الوظيفة العامة للكسب الخاص.

هذه الصورة شائعة في كل دول العالم، بنسب تتلاءم وحجم الحرية، والشفافية المتاحة، وقوة ودور المعارضة في المراقبة والمتابعة. لكنها تتبدى بشكل صفيق ومشرع، في دول العالم الثالث أكثر من غيرها، حيث تبدأ من الآليات المتخلفة في الوصول إلى السلطة، وبالتالي استخدامها. 

فتستحيل المقدرات العامة إلى ممتلكات شخصية، وتوزع فيها الامتيازات واحتكارات الأعمال الكبيرة، على النسق الأول في هذه السلطة. 

وتأخذ ظاهرة الفساد في توليد تداعياتها، التي تبدأ بالفقر، الذي يطول السواد الأعظم من الأفراد، ملغيا في سيرورته ما كان يسمى بالطبقة الوسطى، فتتلاشى معها كل الأشياء المحورية، والجميلة، التي تطبع روح الحياة اليومية، وتلزم لاستمرارها واستقرارها، من ثقافة وقيم وأخلاق، وتوثب خلاق، ورأي عام، وسلام اجتماعي، وإحساس بالأمان. ويصبح الفساد ظاهرة اجتماعية، عادية لا تستدعي الاستغراب، أو الاعتراض، وفي كثير من الأحيان يحظى بمباركة السلطة ورعايتها.  وينحصر الاهتمام اليومي برغيف الخبز، والسلامة الفردية. وتتفشى الجريمة، ويتطور الشعور المكبوت بالسخط، والتهميش، إلى حالة من العدوانية الشخصية، تطبع سلوكات الأفراد بشكل عام، حتى يتنافس عامة الناس فيما بينهم بقدرتهم على مواكبة هذا الفساد ومعرفة استثماره، فتصبح هذه المجتمعات تربة نموذجية، للأفكار الانتقامية، والظلامية، والإرهابية. وقد لمسنا في العقدين الأخيرين، ظهورا حادا لمتلازمة الفساد والفقر والإرهاب.

وفي تفشي هذه المتلازمة، التي أصبحت السمة الأبرز التي تطبع عالمنا، المتهالك نحو الهاوية اليوم، خير دليل على إفلاس الأنظمة الحديثة، وفشلها في إرساء العدالة، بمفهومها الاجتماعي، والسياسي، وإخفاقها في إنجاز وعود التنمية، التي طالما حلمت الشعوب، بتحقيق الحد الأدنى منها. مما أفسح الفرصة، لظهور نزعات عالية التطرف، كرد فعل انتقامي، يستهدف من كان علة في هذا الإفلاس، محملا أميركا، والأنظمة الغربية، بالدرجة الأولى، ومن يمشي في ركبها تاليا، مسؤولية ما آلت إليه الأحوال.

وإلى سنوات قريبة، كانت تأثيرات وتداعيات هذا الفساد، محصورة إلى حد كبير بالإطار الوطني، أو الإقليمي، وأحيانا في إطار المدينة، إلا أنه اليوم ونحن نعيش في قرية عولمية، لم تعد فيها اعتبارات المسافات، أو الحدود ذات تأثير يذكر، بعد أن عملت ثورة الاتصالات، على تغيير كثير من آليات عبور المعلومات، وإنفاذها، بحيث اتسع فضاء الممكنات. لقد صار بمكنة فرد مستلق في سريره، في حجرة ما، أن يعبث بكمبيوتره، أو محموله، فيحرك أنشطة، وأرقاما وأفرادا، هنا وهناك، في هذا العالم المترامي، وكثيرا ما يكون عصيا على المساءلة، أو الكشف. 

وبالمقابل تفتقر كثير من دول العالم الثالث، إلى الحد اللازم للشفافية، التي من شأنها أن تعري مطاوي الفساد، وتدفع باتجاه محاصرته أو محاسبة فاعليه.

إن الفساد اليوم، عولمي الطابع والقدرات والتشابكات، يتجاوز بتأثيراته الحدود الجغرافية، في سرعةٍ تقترب من سرعة الضوء، وينبغي أن نتعامل معه، كما نتعامل مع الآفات الخطيرة، سريعة العدوى.

 لقد أنتج حليبٌ فاسدٌ، في مصنع ما في أقصى آسيا، فشرب منه ملايين الأطفال، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وأودى بحياة كثيرين، وعندما افتضح أمره عبر الإعلام، تبارت مؤسسات الفساد، في عشرات الدول، لتحمي المنتج، والمستورد، والبائع، ومختبرات الجمارك، المسؤولة عن فحص سلامة العينات، وكثيرا ما تتكفل المقابر، بطي الملفات، ولفلفة الأمور.

مما يلفت النظر، ويثير الدهشة، أن الفساد مدان، ومحارب، بكل الفلسفات، والأنظمة، والأديان، الأرضية منها، والسماوية، إلا أنه السيد الحاكم لكوكبنا التعيس، إنما بنسب، وآليات متباينة.

إن ما نشهده اليوم، من عجز عالمي، عن تطويق ظاهرة الإرهاب الدولي، الذي أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، الحرب عليه، بعيد تفجيرات الحادي عشر من أيلول، وصولا إلى الحروب المحلية، ما هي إلا خير دليل، على انقلاب السحر على الساحر. فلم يعد من المجدي، فقط شن الحروب، وتجييش الأجهزة الاستخبارية العالمية، التي غيرت بتجاوزاتها من طبيعة العالم، الذي وصلنا إليه عبر قرون من التطور، لتعيدنا إلى عالم الأخ الأكبر، في رواية جورج أورويل (1984)

فعبر سنوات طويلة من تخليق الفساد، ورعايته، وإدارته، تطور ليصبح حالة سائدة، تكتسي لبوس العرف العام، والقانون الساري، الذي يتواطؤ على إدارته، الضحية والجلاد، خوفا وطمعا. لدرجة لم يعد يجدي معها، تغيير إدارة هنا، وإدارة هناك، أو سن قانون، أو استصدار قرار.

كتب كارل ماركس: (إذا تواترت الجريمة بشكل واسع، وغدت ظاهرة طبيعية، ينبغي التفكير بتغيير النظام، المنتج لهذه الجريمة، بدل تدعيم النظام القضائي، لأنه سيكون مشبعا بالفساد)

ومما يلفت النظر، ويثير الدهشة، أن الفساد مدان، ومحارب، بكل الفلسفات، والأنظمة، والأديان، الأرضية منها، والسماوية، إلا أنه السيد الحاكم لكوكبنا التعيس، إنما بنسب، وآليات متباينة. إن الأزمة العالمية، التي نعيشها اليوم، تتطلب إلى جانب العديد من المراجعات، وإعادة الهيكلة، إلى ثورة تنموية عالمية، تعمل على تحقيق الحد الأدنى لاستحقاقات المواطنة، في كل قرية، من هذا العالم، سواء بالمتطلبات الأساسية للعيش، من صحة، ومسكن، وغذاء، وصولا إلى المتطلبات الإنسانية، والسياسية، التي يمكننا اختزالها بالحرية، والشفافية، وسيادة القانون، بالمعنى العريض، والمفصل. إننا نعيش اليوم، حسب تعبير توماس فريدمان في عالمٍ حار، ومسطح، ومزدحم. والأهم أنه "غارق في الفساد".