"الفسائل" الثورية وحكومات البطاطا

2022.01.01 | 04:17 دمشق

447d2e09a040ca448622e1463b2466092e3f310b.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما يزال الحاكم بأمر الله الفاطمي لغزًا في مطامر التاريخ، وكانت له أحكام عجيبة، مثل تحريم الملوخية والأسماك غير المفلّسة وقتل الكلاب، ونُسجت حوله أساطير، فضاعت الحقائق. كتب الكاتب المصري وائل قنديل عند تولي السيسي حكم مصر يبشرنا بأن التاريخ يتكرر، النسخة المصرية المكررة نسخة شوهاء، وأن السيسي قد يحرّم الملوخية أسوة بسلفه الصالح الحاكم بأمر الله، ثم وجدنا أن السيسي الذي تحبل النساء بنجمه، تخلّى عن نهر النيل لإثيوبيا، ومصارفه تموّل سد النهضة الإثيوبي، وفرّط في جزيرتين أثمن من اليورانيوم والذهب الإبريز، وأنه ملك الخضراوات في مصر، فجيشه يعكف في المصانع الحربية على زراعة الخيار وذخائر الطماطم وصناعة البسكويت العابر للبلعوم والمعكرونة الشبح، ثم دارت الأيام فوجدنا حكامًا بأمر الله في أقطار الوطن العربي وأقطار الوطن السوري، الذي صار قطارًا يجري على سنّة واحدة. وأتذكر أن البطاطا صارت غذاء رئيسيًا على المائدة السورية منذ مذابح الثمانينيات، ثم دارت الأيام، فوجدنا الحواجز تنتصب بين الحارات، والحدود تعلو بين الأحياء في المدينة الواحدة، وأن سايكس بيكو له سلالات كثيرة، ويمكن أن نتذكر أن حافظ الأسد بنى حكمه على الحواجز والطوابير، فلم يكن العبور جائزا من مدينة إلى مدينة، وكانت علبة السمنة هدية ثمينة مهربة من الجيران، وقد عادت ريما (ويقال إن اسمها حليمة) إلى عادتها القديمة. فعلمنا أن الاقتصاد السوري اقتصاد حواجز ورهائن وابتزاز.

الغرض من الحواجز هو الحصار والتضييق وإثارة الرعب والخوف والتجويع والاحتكار، فالدولة التي يتماهى بها الرئيس هي وحدها مصدر الخير ومنهل العطاء

وكان جنودنا البواسل الذين فتح أجدادهم القسطنطينية والأندلس على الحواجز مدججين بالسلاج، يفتحون حصون علب السمنة التي حملها العائد إلى بلده من الغربة، ويفتحون قلاع البطيخ بحثًا عن كتب أو قنابل، كأن واحدهم هو المحقق كولومبو ويبحث عن قاتل الملك لايوس والد الملك أوديب، وسيكشف خدعة المسافر المجرم خائن الوطن، الغرض من الحواجز هو الحصار والتضييق وإثارة الرعب والخوف والتجويع والاحتكار، فالدولة التي يتماهى بها الرئيس هي وحدها مصدر الخير ومنهل العطاء، وهي سنّة عرفها فرعون الذي جعل الناس شيعًا وطوائف يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وعرفت بالتجربة الشخصية أن الانتقال من محافظة إلى محافظة غير جائز إلا بواسطة وشفاعة، فكأن كل محافظة دولة.

 وقد نصبت حواجز الحدود بين مناطق المحرر التي تحكمها ثلاث حكومات من الحكومات الثورية التي سنطلق عليها وصف "حكومات الملوخية" وهي:

حكومة غصن الزيتون في عفرين، وهي تحكم المنطقة التي دخلها الترك بمعاونة من الجيش السوري الحر، وحكومة درع الفرات، وهي الخاضعة للفصائل السورية بمؤازرة من الجيش التركي، وحكومة الإنقاذ التي يحكمها الجولاني قدس الله سره فيما بقي من إدلب، وتتاخمها منطقة الإدارة الذاتية التي يحكمها حزب العمال الكردستاني المقنّع باسم مدني هو الإدارة الذاتية، والمحفوظة برعاية النظام السوري والنظام العالمي.

وكل حكومة لها اقتصاد وسجون وقضاء ووزارات تجتمع من أجل البصل والثوم والقثاء، وقد وجدت حكومة الإنقاذ أن تبادر إلى إصدار قرارات  للمحافظة على  ثومها وعدسها وبصلها الذي يهرب إلى جارتها، فبنت الحواجز لمصادرة البترول الذي يباع بالسعر الحر في عفرين، وعناصر حواجزها يقيسون نسبته في خزان كل سيارة عابرة، فبنت الحواجز الأمنية، وليس سبل الماء على الطرق، وكانت الحواجز أمنيّة سياسية، فصارت أمنيّة اقتصادية، ثم عمدت إلى اختراع التعرفة الجمركية لبيان الحد بين المواد الحلال والمواد الإرهابية، وبناء اقتصاد الوطن ودفع رواتب السادة الوزراء والموظفين، فتطور الحاجز الطيار من جنديين واقفين في العراء بجانب دشمة إلى جنود يتفيؤون ظلال مظلة تقيهم الشمس والمطر، ثم إلى غرفة مسبقة الصنع، ثم إلى مبنى له استراحة، ينام فيها المسافرون العابرون منتظرين فحص حقائبهم وأمتعتهم، وتتناوب عليها ورديات عسكرية، كل وردية ملزمة بالعمل ثماني ساعات، فإذا بالحاجز قد تحول إلى مطار أرضي، أو ميناء بري، وتجد في كل أدبياتنا ومناهجنا هجاء لاتفاقية سايكس بيكو، التي فرّقت بين الشقيقات، وتقديسًا لها في الواقع، فالمواطن محروم من زيارة الشقيقة، وإن زارها بإذن، تجرى معه تحقيقات ضارية، مع أنه زارها برخصة، وقد يُحبس الدهر بتهمة الخيانة.

وبسبب ارتفاع أسعار البترول وتفاوته بين ممالك الحكومات الثلاث، ارتفع سعر الملوخية في منطقة الإنقاذ عن سعر الملوخية في عفرين، فأصبحت الملوخية والخضراوات تشترى من المنطقة الشقيقة المجاورة، ثم تهرب كبضاعة ممنوعة، فأصحبتْ مثل الحشيش أيام زمان، وقد عمدت حكومات أوروبية إلى إباحة الحشيش وبيعه في الصيدليات بذريعة إنقاذ طلابها من جشع التجار، فتجد جنديًا ثوريًا دمر دبابات، وكاد أن يسقط أعتى دكتاتورية في الشرق الأوسط بكامل سلاحه وعتاده، يفحص حقائب المسافرين وجيوبهم بحثًا عن حبة بطاطا أو فسلة ملوخية، وهو يزمجر زمجرة الأسد في عرينه!

قد يحتجز أحد الجنود مسافرين مشبوهين ويخطب فيهم خطبة عن فضائل الآلهة عشتار، كما كان جند داعش يخطبون في الجهاد والقتل والنساء

كان حافظ الأسد "رمز الأمة العربية" يمنع الموز عن شعبه والحرية طبعا، والموز من أقرباء الملوخية، ويقال في التفسيرات الساخرة، إن الأسد اختار الموز من بين الخضراوات وحجبه عن الناس، لأنه رمز جنسي متداول في الأفلام الإباحية، وقصده النكاية.

حواجز حكومة الإدارة الذاتية في منطقة الجزيرة الواسعة يحكمها حزب العمال الكردستاني التركي المقنّع، وهو يفحص البضائع أيضًا، وقد منعت الإدارة منذ شهر التحويلات المالية إلى مناطق الداخل السوري، وهم يفحصون البضائع المصنعة في تركيا، فهي أخطر عندها من الحشيش والسلاح، وقد يحتجز أحد الجنود مسافرين مشبوهين ويخطب فيهم خطبة عن فضائل الآلهة عشتار، كما كان جند داعش يخطبون في الجهاد والقتل والنساء.

بدأنا بالسيسي وإليه نعود، فهو يحكم كبرى الأقاليم العربية، وخطبه كلها على الفكّة والخضراوات والشقق وسعر المكالمة الهاتفية، بينما تجد خطب الرئيس الأميركي عن الحرب مع الصين والقدس وتايوان وأوكرانيا.