العمل التطوعي واختراق المجال العمومي

2021.11.02 | 06:01 دمشق

white-helmets-re-sized.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن جميع البشر على الدوام وعبر تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل منشغلين بالسياسة، فلم يكن المجال العمومي مفتوحاً لجميع الطبقات والفئات الاجتماعية، بل كان حكراً على فئات محددة منهم، تلك التي استطاعت أن تكون قريبة من مركز السلطة، سواءٌ بحكم مكانتها الاقتصادية أو وظيفتها في أجهزة الحكم العسكرية والإدارية والدينية. وقد كانت تلك المساحة تضيق أو تتسع حسب أعمار الإمارات والممالك والإمبراطوريات، وحسب حيوية هذه الفئات وقدرتها على التأثير في محيطها وفي مجريات التاريخ. فعلى سبيل المثال، كان لقريش الدور الأكبر في قيادة الإمبراطورية الإسلامية على مدى قرون عديدة، وقد ساهمت أيضاً قبائل العرب المسلمين المهاجرين في ذلك بأشكال مختلفة عبر الفتوحات الإسلامية في أطوار توسّع الإسلام وانتشاره. لكن لم تكن كلّ قريش ولا كل قبائل العرب منخرطة في هذا الشأن، بل النخبة العليا منها.

تغيّر الأمر تدريجياً مع الانتقال من صفة الرعايا إلى صفة المواطنين، وجاء ذلك كمقدمات ونتائج بنفس الوقت لبناء الدولة الحديثة. بدأ الأمر يتطوّر تدريجياً منذ أواسط القرن السابع عشر، وازداد انخراط الأفراد في الشأن العام مع الوقت عبر تأثيرات النهضة الصناعية. لقد لعبت الرأسمالية الصاعدة دوراً هاماً في تحرير قوّة العمل الفردي، وأثّرت بشكل كبير في حركة المجتمعات وفي تطورها الديمغرافي، فباتت المدنُ الصناعيّة محجّاً للقادمين من الأرياف، وبدأت تتشكل العلاقات الاجتماعية على أسس مختلفة عما كانت عليه من قبل. لم يعد الأفراد محكومين بالأرض وبالمواسم وبالإقطاعي، بات الآن بإمكانهم الانتقال إلى حيث يمكنهم استثمار قدراتهم الفردية.

لم يكن كسر احتكار المجال العام وولوج السياسة أمراً يسيراً، كما أنّه لم يكن إرادياً أيضاً، لقد جاء نتيجة التطور الطبيعي للمجتمعات

مع انزياح السكان من الأرياف إلى المدن، تشكلت مجموعات بشرية جديدة غير قائمة على روابط الدم، أي روابط القرابة والنسب، ولا على روابط المعرفة القديمة بين أبناء القرية الواحدة والحي الواحد ولا روابط التبعية لملّاك الأراضي أو القنانة. أتى الناس من مشارب مختلفة، وهذا ساهم بإضفاء أشكال جديدة من التنوّع. وعندما بدأ هؤلاء يشعرون بالاغتراب عن مجتمعاتهم القديمة، أخذوا يُنشؤون فيما بينهم تنظيمات تعينهم على الحياة، بدأت بالكنائس التي حاولت مجاراتهم في هجرتهم إلى المدينة، واستمرّت في التطوّر إلى أن بدأت تظهر النقابات والأحزاب والاتحادات الطوعية. لقد كان تاريخ تطوّر الدولة هو ذاته تاريخ تطوّر المجتمع، ومع بناء الدول القومية بُنيت الأمم، ومع تطوّر الدول تطوّرت المواطنة.

لم يكن كسر احتكار المجال العام وولوج السياسة أمراً يسيراً، كما أنّه لم يكن إرادياً أيضاً، لقد جاء نتيجة التطور الطبيعي للمجتمعات. وبازدياد إحساس الأفراد بفرديتهم، ازدادت تطلعاتهم للمشاركة في صناعة الفضاء المجتمعي. بدأ ذلك من خلال المطالب الحياتية البسيطة، ثم تدرّج ليصبح مشاركة في الحكم من خلال انتخاب الناس ممثليهم في البرلمانات. لقد فتحت الثورة الفرنسية بشكل أو بآخر المجال العمومي على مصراعيه للمشاركة الشعبية، وبدأت تأثيرات التراكمات الاجتماعية بعد عقود من التطور الصناعي تأخذ مفعولها في تحوّل المجتمعات الصناعية إلى مجتمعات مفتوحة لمشاركة قطاعات مجتمعية واسعة بالشأن العام، فلم تعد تقتصر على أصحاب المال والحظوة أو كبار الموظفين في أجهزة الدولة من إداريين وغيرهم. وفي عصرنا الراهن، فتحت التكنولوجيا آفاقاً هائلة أمام الناس للمشاركة في الشأن العام. من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بات بالإمكان ليس فقط إيصال المعلومات وتبادل الأفكار، بل أيضاً إنتاج الرأي العام وتغيير الواقع الفعلي.

شكّل هذا الفتح ضمن مناخات الديمقراطية والليبرالية المتوسعة باستمرار، أهمّ عوامل تطوّر المجتمع المدني، حتى وصلنا إلى المضمون الحالي للمفهوم. أي مجموعة الاتحادات الطوعية للمواطنين، القائمة على العمل بالشأن العام، من خلال ممارسة الديمقراطية المباشرة في التنظيم، والتبرع بالوقت والجهد من دون انتظار الحصول على مقابل مادي مباشر ودون السعي للوصول إلى السلطة. هنا يصبح الفرد جزءًا فاعلاً من المجموع بشكل مختلف حسب المجال المطروح للتحرّك. فهو يمارس السياسة من خلال الترشح والانتخاب، أي من خلال الأحزاب وسعيها للحكم. كذلك يمارس السياسة من دون السعي للسلطة من خلال توجيه دفّة اهتمامات الفئات المجتمعية المختلفة نحو قضايا يراها ضرورية للمجتمع ككل، مثل قضايا البيئة والمناخ، وقضايا السلام العالمي والفقر والصحة والتعليم في المجتمعات الأقل تقدماً في باقي العالم.

في مجتمعاتنا العربية، ساهمت قضايا كبرى في فتح المجال العام أمام الناس، مثل التحرر من الاستعمار الغربي المباشر وقضية فلسطين. لم يكن للمواطنة – التي لم تتشكل بحق بعد – كبير دورٍ في هذا السياق. استثمرت الأنظمة العسكرية الانقلابية كثيراً في الحماسة الوطنية الشعبية ضد الاستعمار والصهيونية، لكنها فعلت ذلك لتحقيق غايات ضيقة تتلخص بتمكينها من الحكم وبخلق شرعية ثورية مقابل شرعية حكم الطبقات السياسية التقليدية، فساهم ذلك في توسيع المشاركة الشعبية في الشأن العام. لكنّ طبيعة هذه الأنظمة الاستبدادية أدّت إلى إعادة غلق هذا الفضاء الرحب، فأصبح الناس رغماً عنهم خارج السياق المعتاد للتطور البشري، حتى بات الفعل المجتمعي المدني خارج إطار التنظيمات الأهلية (المحصور نطاق عملها بتقديم العون للفقراء والمحتاجين لا غير) أمراً ممنوعاً ويشكل جرماً بنظر السلطات في كثير من البلدان، مثل سوريا والعراق وليبيا.

مع ثورات الربيع العربي عاد الناس لساحة المشاركة العامّة، دخلوا السياسة من باب الحضور في الشوارع والميادين، وولجوا الفكر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تناقشوا مطولاً، تبادلوا الأفكار وأسسوا الأحزاب والتنظيمات والتجمعات، اخترقوا مجالات العمل العام عبر منظمات العمل الخيري، الإغاثي والطبي والقانوني. لكن لم يكن هذا وحده كافياً لبناء مؤسسات العمل الطوعي، أي العمل الجماعي المبني على التبرع بالجهد والوقت. لقد كانت جميع الأعمال السابقة مدفوعة الأجر وممولة من جهات أجنبية في الغالب. شكّل هذا الأمر فتحاً للعمل المدني الجماعي من جهة، وشكلاً تصوراً خاطئاً عنه من جهة ثانية. فالعمل الجماعي لا يشترط أن يكون على الدوام مأجوراً، وحتى يكون له قيمة مجتمعية فاعلة في محيطها العام، يجب أن يكون بلا أجر. لقد أعاق هذا الأمر بشكل أو بآخر تطوّع الشباب للعمل.

ثقافة التطوّع والتبرع والبذل والعطاء لا تأتي من فراغ، ولا تنمو في أجواء الفاقة والعوَز ولا في ظل الحروب، بل تحتاج إلى مجتمعات مستقرّة ومزدهرة

لولا بعض النشاطات التي قام بها المغتربون السورين القدامى في أميركا وأوروبا، لما وجدنا أي شيء من أشكال العمل التطوعي. قد يكون من الإجحاف الطلب ممن شرّدوا من وطنهم وفقدوا موارد رزقهم أن يعملوا متطوعين بالشأن العام، لكن من الإجحاف أيضاً ترك الأمر كليّة. والحقيقة أنّ ثقافة التطوّع والتبرع والبذل والعطاء لا تأتي من فراغ، ولا تنمو في أجواء الفاقة والعوَز ولا في ظل الحروب، بل تحتاج إلى مجتمعات مستقرّة ومزدهرة. مع ذلك، ليس لنا – نحن أبناء الثورات المغدورة والانتفاضات اليتيمة – سوى التكاتف وتخصيص المزيد من جهودنا في هذا المجال.