العقول مغلولة بالسقوف الواطئة: فما نفع الاحتجاج؟

2021.08.26 | 06:17 دمشق

1220193165220936.jpg
+A
حجم الخط
-A

بالخطف خلفاً؛ من مذيعة سيلفي الجثث، إلى مذيعة جرة الغاز، مروراً بوالدة الجريح الذي تم حبسه قبل أيام، في المدينة الرياضية، على هامش افتتاح دورة ألعاب جريح الوطن، وصولاً إلى حادثة قديمة، قام فيها مذيع الأخبار الرئيسية، في التلفزيون السوري، وعلى الهواء مباشرة، بمطالبة الأسد أن يرعاه ويحميه، بوصفه ابن شهيد، في مقدمة نشرةٍ كُلف بقراءتها! 

تتكررُ مناشداتٌ يطلقها صغار القوم، في زمن سوريا الحالي، من أجل إنصافهم، وقد وجهت إلى أعلى سلطة في البلاد، بعد أن فقد هؤلاء الأمل بمن هم تحته، ضمن سلم تراتبية المسؤوليات المعتاد.

صاحبات الشكاوى في الأسبوعين الماضيين، يمكن اعتبارهن من اللواتي يمتلكن ظهوراً تحميهن، وفق الحكمة الشعبية التي تقول: "الله يعين اللي مالو ضهر"، والشخص المقصود هنا، ذلك الذي ليس لديه قريب، أو صاحبٌ، في مراكز القوى، من المسؤولين وضباط الأمن وضباط القصر، فلا يجد من يحميه في زمن الشدائد!

لكن، رغم ذلك، تُظهر الأفلام التي ظهرن فيها أن القضايا المتعلقة بهن لا يمكن أن تحل، إلا من خلال الوصول للرئيس، ضمن اعتقادهن اليقيني بأن العدل سيتحقق على يديه، فهو -بحسب وعيهن- لا يقبل بأن يحصل لهن ما حصل، وهو بالتأكيد لا يعلم بما يجري!!

السياق العام للوضع في الداخل، يُظهر في كثير من معطياته أن بشار الأسد لا يعلم بكل ما يحصل وحسب، بل هو حريص على أن يحصل، وأن "يتبهدل" مؤيدوه، وأن يُلحق بهم الأذى والإذلال، ليبقوا كما هم، في زمن السلم، كما في زمن الحرب، في رسائل واضحة تقول إن لا دالة لهم عليه، وإن وقوفهم مع نظامه في زمن الثورة، لا يعني أنه يدين لهم بشيء!

وقد نطقت مستشارته لونا الشبل بهذا الفحوى في مقابلتها الكارثية على شاشة الإخبارية السورية.

ولكن ماذا يمتلك مثل هؤلاء في عالمهم الصغير الضئيل، المحدود، المسقوف برضا رجال النظام تسلسلياً، من أصغر عنصر في رجال الأمن، وصولاً إلى أعلى الهرم السلطوي، سوى أن يرسلوا الرسائل والاستغاثات، جرياً على التقاليد المستدامة في البلاد التي يحكمها الطغاة؟!

ماذا يمتلك مثل هؤلاء في عالمهم الصغير الضئيل، المحدود، المسقوف برضا رجال النظام تسلسلياً، من أصغر عنصر في رجال الأمن، وصولاً إلى أعلى الهرم السلطوي

قديماً، في عهد حافظ الأسد، كانت كلمة السر فيما يعتقد أنه السبيل الوحيد للحصول على الحق المسلوب، أن يقوم المظلوم بكتابة رسالة للأب القائد، يحاول أن يسلمه إياها باليد، أثناء اللقاء به، في إحدى جولاته شبه النادرة، في عاصمة الدولة التي يحكمها، إذ يمكن اعتبار هذا الأسلوب هو المعادل القديم، لقيام المذيعات وغيرهن بتصوير أنفسهن، عبر الفيديو والبث المباشر في وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي العديد من الأفلام الإخبارية التي شاهدتُها في أرشيف التلفزيون، كانت الرسائل التي يتسلمها حافظ الأسد، من مواطنين نجحوا في اختراق حرسه، والوصول إلى مسافة قريبة منه، تنتقل من يده إلى يد أحد مرافقيه، فلا يعلم أحد إلى أي حال سينتهي مصيرها أو مصير من كتبها، وماذا سيحل بقضيته. ولكن هل كان هذا هو السبيل الوحيد لإعلان الشكوى والتبرم من عدم الاستجابة للمطالب؟

ربما كان الأمر يتعلق فعلياً بموضوع الشكوى، وطبيعة الشاكين، فظلم ما أحاق بموظف في مؤسسته التي يعمل بها، كان يمرر عبر الرسائل باليد، وشكوى من الفساد المستشري هنا وهناك يمرر بالطريقة ذاتها، ولكن ماذا فعل أهالي المعتقلين والمغيبين في السجون؟

يمكن للمقارنة بين زمنين وبين قضيتين أن تشرح الفرق بين رجاء الأذلاء، وبين احتجاج الكرماء الأعزاء، ففي الفضاء الذي كان حافلاً بعائلات المعتقلين السياسيين من اليساريين والقوميين والإسلاميين، الذين قضوا سنوات طوال بين سجون الفروع الأمنية، ومعتقلات الشيخ حسن، والمزة، وصيدنايا، وعدرا، وسجني قطنا ودوما المخصصين للنساء، كان بعض البسطاء يحاول أن يوصل الشكوى إلى الرئيس، لكن هذه المساعي كانت ترتطم بصخرة الحقيقة المرة، بعد تلمس المفارقة السوداء، فهي توجه إلى الشخص الذي أمر باعتقال الشباب والصبايا، لا لشيء سوى كونهم رفضوا ديكتاتوريته ونادوا بدحرها!

ولأن رسائل ورقية عن هذا النوع والقضايا الحساسة لن تصل حكماً، ولن يستجاب لها، حتى وإن وصلت، فإن الخيار الأفضل الذي قررته نساء من هذه العائلات ذات يوم، هو القيام باحتجاج مادي حقيقي أمام قصر المهاجرين نفسه، فتوجهن إليه في 19 من أذار عام 1990، لكن أمن القصر الذي منعهن من إكمال طريقهن، هددهن بإلحاقهن بأبنائهن، إن لم ينصرفن، وفي النهاية أجبرهن على الركوب في حافلات جماعية فرقتهن ضمن شوارع دمشق*.

هل علم رأس النظام بهذه المظاهرة؟ نعم، لقد وصلته تفاصيلها، بالرسائل المعلنة للمشاركات فيها، وبالرسائل غير المعلنة، ولاسيما منها تطوير السوريات من أمهات المعتقلين لأدواتهن، من أجل الاحتجاج على مصير أحبابهن غير المعروف، لكنه تعاطى معها على الأغلب بوصفها مزحة ثقيلة الظل، فالرجل الذي كان يعلم أن نساء عائلته قد تخصصن بالاستيلاء على الأموال والذهب الذي تقدمه عائلات السجناء والمفقودين من أجل الحصول على أخبارهم، استغرب جحود المحتجات وعدم تقديرهن للقناة التي فتحها لهن، من أجل أن تطمئن قلوبهن على أولادهم، وعلى الأقل، لابد أنه استاء من مبادرة لرفع الصوت بهذا الشكل، بعد تاريخ طويل من التدجين!

لكنه لم يشأ أن يعطي الأمر أكبر من حجمه، فأوكل القصة لضباط أمن قصره، ولم ينتج عنها أي شيء، لكنها بقيت للتاريخ، كإحدى الحوادث غير المعتادة في سوريا التي حكمها حافظ الأسد!

 

*يمكن الاطلاع على تفاصيل القصة كاملة في كتاب "حكاية حزب العمل الشيوعي في سوريا" لراتب شعبو.