العقل العربي وثقافة المتحف

2021.03.11 | 05:34 دمشق

alqrat-alabstymwlwjyt-lltrath-nd-mhmd-abd-aljabry.jpg
+A
حجم الخط
-A

يكتب في ميزان حسنات الدراسات الثقافية أنها شرعت الباب أمام البحث في تاريخ كثير من المؤسسات الثقافية والاجتماعية، مستفيدة من تراكم معرفي حققه علم الاجتماع والفلسفة ومدرسة التاريخ الجديد. غير أن ما يحول دون تطور مثل الدراسات التي تتناول المؤسسات في بلادنا أن نشأتها لم تأت ثمرة تغيرات فكرية وثقافية طويلة ومعقدة، فحين حدث التلامس بين العالم العربي والعالم الأوروبي الصاعد، أرادت النخبة العربية آنذاك مجاراة العالم الأوروبي في مؤسساته وهيئاته الثقافية، فعملت على إنشاء كثير من تلك المؤسسات، دون أن تدرك النخبة اختلاف السيرورة الحضارية التي كانت وراء ظهور العديد من المؤسسات والهيئات.  

حال دون تجذر الأوبرا والفرق السيمفونية والمسرح، في الحياة الثقافية، أنها فنون ليس لها نظائر قريبة منها في تراثنا، تقوم بوظيفة الحاضنة، ولذلك انحصر الاهتمام بها وتذوقها على نخبة النخبة. ولكن المعضلة التي تحتاج إلى مزيد من القراءة أن بعض المؤسسات الثقافية القادمة من العالم الغربي لم تترسخ في حياتنا، على الرغم من وجود حوامل حضارية تساعد على تبيئتها، فمع غنى بلادنا بالآثار، لم تتطور ثقافة زيارة المتاحف والأمكنة التاريخية والأثرية، بحيث تصبح نشاطًا ثقافيًا عامًا، بدلًا من بقائها محصورة بالنخبة الثقافية.

لتوضيح هذه الإشكالية، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي والحضاري الذي ولد فيه المتحف في العالم الأوروبي. فقد نشأ المتحف بوصفه مؤسسة ثقافية في القرن الثامن عشر، ووصل إلى الشكل الذي نراه عليه الآن في القرن التاسع عشر، ولاسيما النصف الثاني منه، بعد اكتمال بناء الدولة -الأمة، ورغبة الدول الوليدة في تقديم سرديات ثقافية تعكس جوانب من التاريخ، تعزز الهوية الثقافية للمواطنين، وتنشر الوعي بهذا التاريخ من خلال عرضه أمام الجمهور، بطريقة تخدم التصور العام الذي تريد السلطة تقديمه، بمعنى أن المتحف كان يعرض أشياء ويغفل أشياء أخرى، أو يقدمها ضمن سيرورة معينة تخدم الهم الإيديولوجي للسلطة.

الوظيفة الاقتصادية للمتحف ظهرت لاحقًا، مع اكتشاف الرأسمالية إمكانية استثمار صناعة الثقافة، وتحقيق الربح عبر عرض الأوابد التاريخية والفنون البصرية أمام المشاهدين، ومع نشوء الطبقة الوسطى واتساعها.

ولكن العامل الأساس، في نشوء المتحف، هو إحساس الإنسان الغربي بالمسافة الحضارية والفكرية، التي تفصله عن زمن المقتنيات الأثرية التي يعرضها المتحف عادة، فقد تطور المتحف في القرن التاسع عشر، بعد الثورة الصناعية ودخول الآلة التي غيرت حياة البشر، وأحالت الكثير من الأدوات المستعملة إلى أدوات تاريخية، الأمر الذي رسخ في ذات الإنسان الغربي الشعور العميق بالفارق الواسع بين ما يملكه من أدوات مكنته من السيطرة على الطبيعة والتوسع الاستعماري، وبين ما كان لدى أسلافه من أدوات بدائية، لهذا يذهب الإنسان الغربي إلى المتحف ليرى الماضي، ماضي أسلافه، وماضي البشرية، وليدرك الطريق الطويل الذي قطعته. وتتضح هذه النزعة التطورية في الطريقة التي تقدم بها المقتنيات في المتحف، حيث تبدأ من عصور ما قبل التاريخ إلى العصر الحاضر.

لو عدنا إلى عالمنا العربي – والأمر ينطبق على العالم الثالث-لوجدنا أن ثقافة المتحف لم تنتشر، ولم تتحول إلى ثقافة عامة في أوساط الناس

لو عدنا إلى عالمنا العربي – والأمر ينطبق على العالم الثالث-لوجدنا أن ثقافة المتحف لم تنتشر، ولم تتحول إلى ثقافة عامة في أوساط الناس كما أشرنا آنفا. لا يعود هذا إلى أن الدولة العربية لم تكن معنية بتشجيع المواطنين على زيارة المتاحف والأمكنة الأثرية، فرسوم الدخول إلى المتاحف العربية رخيصة، إن قورنت بالرسوم في بقية دول العالم. أجل، لم تكن الدول العربية ذات الإرث الحضاري (كمصر والعراق وسوريا) قادرة على بناء متاحف جذابة، بسبب الفساد ومحدودية الموارد التي تخصص للحقل الثقافي، ولكن هذا أمر مختلف عن غياب الثقافة نفسها.

قد نفسر عدم الإقبال هذا بعامل اجتماعي، هو عدم نشوء طبقة وسطى حقيقة، أو بعامل حضاري يتمثل بضعف الموروث الفني في الحضارة العربية-الإسلامية التي تشكل المرحلة الأكبر في تاريخنا، نظرا لموقف ديني من الفن البصري الذي انحسر لصالح تراكم كبير في إنتاج الكلمة. هذا صحيح في جانب منه، ولكن هذه الحجة الأخيرة عاجزة عن تعليل الإحجام عن زيارة القلاع والأسواق الأثرية، وهي موجودة في كل مدينة عربية، اللهم إلا إذا كانت هذه الزيارة من أجل التسوق.

قد تلقي العودة إلى كتابات الجابري بعض الضوء على الأسباب الخفية وراء هذا الظاهرة، فقد ذهب الجابري إلى أن العقل العربي عقل سكوني، انتقال الأفكار فيه انتقال مكاني، وأن التطور الذي وسم الثقافة العربية-الإسلامية تطور أفقي لا عمودي، فما قاله العرب في دمشق والبصرة والكوفة، كرروه في بغداد، ولاحقًا في قرطبة والقاهرة والمغرب الأقصى. لذلك، فإن الرموز والشخصيات العربية تعيش كلها على قدم المساواة، تعيش على خشبة مسرح واحدة، لا فرق فيها بين الجاحظ والقلقشندي والرافعي، والأمر أكثر وضوحًا في الشعر، فما زال امرؤ القيس يحتل ذائقتنا الشعرية، مثله مثل المتنبي وأبو ريشة، بل ربما كان قراء امرئ القيس والنابغة وجرير ومعجبوهم أكثر من قراء السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل...إلخ. خلاصة ما يريد الجابري قوله هنا أن العقل العربي لم يحقق قطيعة مع الماضي، قطيعة يشعر فيها الإنسان بأن الأفكار التي يقرؤها في كتب الأسلاف، كفت عن مخاطبته، وأصبحت بعيدة عن عالم المفهومات والأفكار التي يؤمن بها.

هذا سبب جوهري وراء عدم نشوء ثقافة زيارة المتاحف، ذلك أن المتحف ينشأ في اللحظة التي يدرك فيها البشر أنهم أنجزوا قفزة حضارية أو فكرية عن الزمن السابق، ولذلك يضعون العالم الماضي في المتحف، لا من أجل المحافظة عليه فقط، ولكن من أجل أخذ العبرة والعظة، والنظر إلى الهوة التي تفصلهم عنه.

كيف يمكن لعربي، أو لشرقي عموما، أن يزور المتحف في حين أنه ما زال في أعماقه يعتقد أن الزمن الماضي هو الزمن المشرق الجميل؟ كيف يمكن لعربي أن يزور المتحف، في حين أن المنظومة الفكرية التي يعرضها المتحف تعيش معه في الشارع والمنزل والعمل...إلخ؟

أجل، لقد تطورت الأدوات الحياتية، واستعمل إنساننا التكنولوجيا وأحدث ما تنتجه الآلة، ولكن البون شاسع بين الزمن المادي والزمن الثقافي، فالحياة المادية تتطور بسرعة، في حين يظل الزمن الثقافي أقل عرضة للتغير. لقد استخدمنا السيارة والطائرة والحاسوب، وتمكنت بعض دولنا من دخول عالم الإنتاج الصناعي، غير أن النظرة الماضوية إلى العالم ما زالت هي المهيمنة على زمننا الثقافي.

لعل الأكثر ألمًا أن يذهب الإنسان إلى المتحف ويزور الآثار لا ليرى الهوة التي تفصله عن الماضي، ولا ليعاين التطور الذي وصل إليه، وإنما ليعاين مستقبله، ففي مجتمعات مأزومة، تقتات على ما خلفه الأسلاف، ربما ذهب إنساننا إلى المتحف ليرى مستقبله.