العسكري الذي لم يسرّحه الأسد

2020.03.15 | 23:02 دمشق

00.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن سهلاً على الشاب أن يوفق بين وجوه نشاطه الثلاثة في السنوات الأخيرة؛ وضعه كمجنّد طالت أيامه في جيش النظام، وعمله الطارئ كمراسل لشبكة «دمشق الآن»، ومهنته الأساسية في التجميل. توازعت هذه الأدوار المتباينة نور الذي بات ثلاثينياً في غفلة منه، وفرض كلٌّ منها جوّه الخاص وعلاقاته والاسم الملائم له، قبل أن يقضي صاحب كل هذا منذ أسبوع، بانفجار لغم بالسيارة التي كان يستقلها أثناء خدمته في دير الزور.

في الجيش سيُعرف نور بكنيته الرسمية «برزنجي» التي تدل على أصل كردي لم يعنِ له شيئاً كما يبدو، حاله في ذلك حال كثير من أكراد دمشق الذين باعد الزمن بينهم وبين لغتهم، فضلاً عن مغادرة عائلته حي الجماعة الأساسي، الصالحية – أكراد، في وقت مبكر، إلى دمّر على طرف العاصمة، حيث أقامت في بيئة شعبية نشأت وهي ترنو إلى مشروع دمر، حي البرجوازية الناشئ ومقصد مشاوير الصندويش وحلم الصعود الطبقي.

في هذا السفح، الذي يعد بالوصول إلى هضبة «المشروع» ولا يوصل إليها دون مشقة، ولد محمد نور في أسرة عادية. لم يميّزه سوى طموحه الذي لم يترجمه في المدرسة، وانقطع بالتحاقه بالجيش بعد وقت قصير من اندلاع الثورة، ظناً منه أن ما يحدث عابر وأنه سيعود إلى حياته في القريب العاجل كأي عسكري في السابق. وهو ما لم يحدث خلال سنوات صار فيها أباً لثلاثة أطفال من زوجة فلسطينية متدمشقة، محجّبة كالنسوة في بيئته.

فُرز نور إلى قوات «الحرس الجمهوري» التي يعتمدها النظام ويعوّل عليها كثيراً. لكنه سيعثر في قلب هذه الورطة على منفذ نجاته حين سيتعرّف هناك إلى وسام الطير، وهو ابن حي قريب مكون من مهاجرين علويين، كان يخطو بثبات في الإعلام الإلكتروني عبر إدارة صفحة فيسبوك باسم «مساكن الحرس الجمهوري»، ثم تأسيس شبكة «دمشق الآن» ذائعة الصيت، والتي كان لدى نور ما يقدمه لها.

فُرز نور إلى قوات «الحرس الجمهوري» التي يعتمدها النظام ويعوّل عليها كثيراً. لكنه سيعثر في قلب هذه الورطة على منفذ نجاته حين سيتعرّف هناك إلى وسام الطير

بلهجته الشامية وجسمه المربوع ووجهه الذي زادته اللحية وسامة؛ أسهم نور في الجرعة الدمشقية التي تحتاج إليها الصفحة لتقدّم لمليونين ونصف من متابعيها الوجه الـCool لعاصمة شبابية حديثة في ظل «الحرب»، وتعرض لهم أيقوناتها من وجهة نظر الغرباء عنها؛ باب توما والقيمرية ومقهى النوفرة. هناك سينجز نور ريبورتاجات سريعة عن موضوعات من نوع «يا ترى الشب ما بعيبو شي؟»، سائلاً صبايا عصريات عابرات، أو يصوّر مطربانات المكدوس واللبنة في باب سريجة والبزورية، أو يشارك في مسيرة بالسيارات للاحتفال بسوريا «اللي بيلبقلا الفرح»، عند فوز منتخبها «نسور قاسيون» في إحدى مباريات كرة القدم، بالتوازي مع «تحرير» دير الزور.

 

 

01_0.jpg

 

بالمقابل، حرر العمل في «دمشق الآن» صاحبه من الجيش، فقد كانت أبرز نماذج «الانفتاح الإعلامي»، وتحظى بدعم أسماء الأسد، وكان وسام الطير قادراً على ندب المجند من قطعته لصالح الشبكة.

وقد أتاحت هذه الفرصة لنور نقشبندي، وهو لقب شائع غير رسمي للعائلة استخدمه في عمله الإعلامي، العبور نحو كنيته الثالثة. فعلى هامش الإقامة في منزله وإطلاق لحيته وارتدائه بنطلونات الجينز والتيشيرتات، قرر الاستفادة من حرية الوقت المتاحة لمتابعة مهنته المجزية في الوشم، والتي يُعرف فيها بنور تاتو.

 

02_2.jpg

 

وعبر شبكة من العلاقات الطيبة مع صاحبات صالونات تجميل سيقطع دمشق من أقصاها إلى أقصاها، بعد مواعيد هاتفية. متنقلاً بين مشروع دمر وأوتوستراد المزة والقصاع وسواها، لتعبئة الحواجب دون وذمة، ونقش بعض الرسوم والكتابات والرموز، والمتاجرة بأجهزة وأقلام وأحبار الوشم. وهكذا سرت الحياة معه بشكل جيد، في غالب الأحيان، حتى اعتقال وسام الطير وبعثرة المقربين منه وتحجيم «دمشق الآن».

كانت لذلك نتائج كارثية على نور قبل أن تنتهي بمقتله. فقد أعيد إلى اللواء 103 حرس جمهوري في أقصى الشرق، في شظف من العيش وأيام تمرّ دون أن يؤمّن نفسه وأسرته أو يؤسس شيئاً لمستقبل أولاده، بعدما ضاع كل ما فعله في السنوات الماضية وأخذت حياته تتقهقر، كما كتب شارحاً مشاركته في إطلاق حملة «بدنا نتسرح» الشهيرة.

 

03_0.jpg

 

توضح الحملة، التي عبّرت عنها صفحات عدة على فيسبوك، أن غايتها ليست إثارة الفوضى. وتشدد على جمهورها العريض من المجندين وذويهم أن لا يكتبوا «ولا كلمة غلط أو برّا الطريق». الحملة موالية للنظام، تفتخر بالجيش وتحيّي «إنجازاته» على الجبهات. هي فقط مناشدة لإيصال الصوت إلى «أملها الوحيد»، الذي هو «السيد الرئيس»، كي يبدّل جنوده. فالقدامى دفعوا ما يكفي في سبيل «الوطن» في حين يتهرّب مئات الآلاف من الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية، ويقضون أوقاتهم في المقاهي يدخنون النراجيل، فارّين أو متلحفين بالتأجيل الدراسي الذي يمددونه بسنوات الرسوب المتعمد ليستمروا في حياتهم اللاهية.

إذا كانت سيرة نور نقشبندي تقدّم صورة شبه نمطية لعشرات آلاف المجنّدين سواه فإن عائلته تبدو مثالاً نموذجياً أكثر. ومن الجدير بقليل من التأمل فيها أن ينبّه إلى تورط قطاعات كبيرة من الرماديين في تأييد النظام بحكم واقع الحال. فبخلاف الكثير من الكلام النظري عن شعب مسكين حائر بين «طرفي النزاع»؛ يبدو وجود أحد أفراد الأسرة في الجيش مدخلاً مشروعاً للدعاء له أن «الله يحميه»، فالانتقال إلى «الله ينصره» طالما أن هزيمته ستعني قتله غالباً ونصره سيعني نجاته، وأن تراكم انتصاراته سيعني عودته النهائية بخير وسلامة.

إذا كانت سيرة نور نقشبندي تقدّم صورة شبه نمطية لعشرات آلاف المجنّدين سواه فإن عائلته تبدو مثالاً نموذجياً أكثر

يتطلب الأمر حساً معارضاً أصيلاً صلباً، وقدرة عالية على تركيب الموقف، كي يأمل الأهل أن ينكسر الطرف الذي يقاتل ولدهم في خندقه بينما ينجو هو بشكل خاص. وبالتالي فإن ذوي المجندين إجبارياً هم مخزون يُستدرَج وينزلق عاطفياً ليضاف إلى حوض مؤيدي النظام حكماً، إلا في حالات نادرة.

شيّعت شرطة المراسم نور من مشفى تشرين بموسيقى جنائزية مهيبة. مُنح رتبة ملازم شرف ووساماً ووُضعت فوق تابوته أكاليل باسم القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة والحرس الجمهوري. حيّا الضباط أباه باحترام وصارت والدته «أم البطل» الذي مات «أثناء قيامه بواجبه الوطني». صحيح أن هذه الترهات لا تعوّض الفقد ولن تفيد أرملته وأطفاله في شيء، ولكن ما البديل عن هذا التخدير لتحافظ العائلة على الحيادية وترفض رشوة النظام الرمزية ولا تواطئه في أكذوبة «الشهيد»؟ الاعتقاد بأن ولدها قُتل عبثاً في حرب سيق إليها دون معنى؟ أم التساؤل عن عدد من قد يكون قتلهم من أبناء هذا الوطن قبل أن يلقى مصرعه؟ هل يوقفون القرآن حين صدح، في التشييع، بآية ﴿ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً...﴾، قائلين إنه قُتل في سبيل الدكتاتور؟ وإن مصيره مجهول بدل أن يكون «مثواه الجنة»؟

وأي رواية قد تلهم عائلته العزاء اليوم، وتزوّد أولاده بقصة مشرّفة حين يكبرون، سوى السردية المسمومة التي يمنحهم إياها الأسد؟!!

04_0.jpg