العدوان الروسي والكارثة السورية

2022.09.30 | 05:06 دمشق

ت
+A
حجم الخط
-A

تزامناً مع حلول الذكرى  السابعة للعدوان الروسي على الشعب السوري، تستمر طائرات بوتين وقاذفاته في استهداف المدنيين، ويبدو أن المخيمات باتت الهدف الذي يشعر الروس أن عليهم إزالتها باعتبارها باتت معلماً من معالم إجرامهم، إذ لم يكتفوا بحمم الموت التي تتهاطل فوق رؤوس السوريين منذ أواخر أيلول عام 2015، بل ربما باتت شهوة القتل لدى موسكو لا تستثني من تشردوا ونزحوا من بيوتهم منذ سنوات، إذ استهدفت الطائرات الروسية صباح يوم الثلاثاء الماضي قرى ومخيمات في منطقتي كفر لوسين والبردغلي القريبتين من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، وما تزال الطائرات الروسية في سماء جسر الشغور والريف الجنوبي من إدلب مبعثاً دائماً للرعب من موت مباغت في أية لحظة، في حين أن ما يثير الدهشة والاستغراب هو تساؤل الكثيرين في أعقاب كل مجزرة روسية: ما الرسالة التي يحملها التصعيد الروسي على البلدة الفلانية أو المخيم الفلاني؟ هل هي رسائل لتركيا أم لأميركا أم لمن؟ وكأن أرواح السوريين باتت صندوق بريد لرسائل الروس إلى الآخرين، بينما واقع الحال يؤكّد أن الرسالة الوحيدة التي يريد بوتين ترجمتها هي موجهة للسوريين وليس لسواهم، إذ إن المطلوب قتلهم أو تهجيرهم أو استئصالهم وتمكين نظام الأسد من السيطرة على الأرض، هذا فحوى الرسائل الروسية التي لم تتبدّل منذ سبع سنوات وحتى هذه اللحظة.

 ولعل المفارقة الأكثر ريبةً أن تتزامن هذه الذكرى الكارثية أيضاً مع زيارة وفد من شخصيات سورية معارضة إلى موسكو قبل أيام قليلة بهدف استكمال التنسيق مع الروس لإيجاد حل سياسي بات (ضرورة) بحسب أحد أعضاء الوفد الذي ادّعى على الملأ بأن الروس هم أصحاب المشروعية في قيادة أي حل سياسي نظراً للدور الروسي الذي حارب الإرهاب في سوريا وحال دون وصول الجماعات المتطرفة إلى الحكم، وهذا بالطبع ليس كلاماً جديداً يقال للمرة الأولى من المعارضات التابعة لموسكو، ولكن كان من المفترض عليهم القول: إن ما يخوّل روسيا بفرض رؤيتها ويعطيها أولوية التحكّم في الشأن السوري هو أن بوتين كان الأكثر إيغالاً بالدم السوري والأكثر حصاداً لأرواح السوريين كما هو الأبرع دون منازع في اقتلاع السوريين من بيوتهم وبلداتهم وتشريدهم داخل سوريا وخارجها.

ما من شك في أن المنجز الإجرامي الروسي في سوريا ما كان ليتحقق لولا مباركة دولية وإقليمية، بل ربما كان قرار بوتين بالتدخل العسكري المباشر ليس تلبية لدعوة من نظام الأسد وإلحاحٍ إيراني فحسب، بل وبتأييد أميركي وجدت فيه حكومة أوباما آنذاك فرصة للتنصل من مسؤولياتها الأخلاقية حيال القضية السورية، كما وجدت فيه إسرائيل وسيطاً مقبولاً بينها وبين إيران لرعاية تفاهمات الكيان الصهيوني وطهران على مواقع النفوذ داخل الجغرافية السورية، وكذلك وجد الأوروبيون في ذرائع الروس التي زعمت أنها سوف تحارب القوى الإرهابية في سوريا حجةً تعفيهم من الخوض بما لا مصلحة مباشرة لهم فيه، وهكذا وجد الروس أنهم حيال فرصة تاريخية تتيح لهم أن يمارسوا كل أشكال وفنون الإجرام بلا أي رادع، ولم يعد بوتين مسؤولاً عن تمكين نظام الأسد من قتل السوريين وتقديم كل أشكال الدعم له فحسب، بل أصبح الروس مدافعين عن أمن النظام وحمايته أمام المجتمع الدولي بشكل عام، بل لعل بوتين هو المنقذ الحقيقي لبشار الأسد من جريمة الكيماوي في الغوطة الشرقية (آب عام 2013) حين أقنع أوباما بمصادرة أداة الجريمة وترك المجرم طليقا، وكذلك كان الفيتو الروسي في مجلس الأمن هو الحصانة الحقيقية لنظام الأسد أمام  أي إجراء عقابي له من المجتمع الدولي.

ربما بات من العسير حصر المفاصل الأساسية للعدوان الروسي في جوانب محدّدة، وذلك لشمولية هذا العدوان الذي لم يستثن أي جانب من حياة السوريين، ولكن يمكن الوقوف بإيجاز شديد عند أحد أهمّ تلك المفاصل، وأعني مسار أستانا

ربما بات من العسير حصر المفاصل الأساسية للعدوان الروسي في جوانب محدّدة، وذلك لشمولية هذا العدوان الذي لم يستثن أي جانب من حياة السوريين، ولكن يمكن الوقوف بإيجاز شديد عند أحد أهمّ تلك المفاصل، وأعني مسار أستانا (مطلع العام 2017) إذ استطاع الروس من خلاله تحقيق منجزين متوازيين، فعلى المستوى الميداني استمرت روسيا بعملية احتواء للفصائل العسكرية، سواء باستهدافها عسكرياً والإجهاز على تموضعات الجيش الحر، أو من خلال استدراجها إلى طاولة مفاوضات أستانا ضمن شروط لا تتحقق فيها أدنى نسبة من التكافؤ أو التوازن، إذ ترافقت مفاوضات أستانا بوقف لإطلاق النار من جانب الفصائل العسكرية المعارضة فحسب، بينما استمر الروس ونظام الأسد بعمليات القتل والترويع والاستئصال، وقد تكللت مساعي أستانا من الناحية العسكرية باتفاق ما يسمى (خفض التصعيد) وهذا الاتفاق في حقيقته لا يعدو كونه مجرّد تفاهمات بين رعاة أستانا (روسيا وإيران وتركيا)، ولم يكن يحظى بالرعاية الدولية الكافية لتحصينه، ما جعل الروس يسارعون إلى خرقه وتجاوزه متى أرادوا، وبالفعل فإن اجتياح قوات النظام مدعومةً – جوياً – من الروس للغوطة الشرقية والقلمون ودرعا، كانت المآل الحقيقي لما يُدعى بتفاهمات خفض التصعيد. وفي موازاة هذا المُنجَز العسكري الروسي، ثمة مُنجَز سياسي موازٍ، بل ربما كان نتيجة للأول، ويتمثل بالتفاف روسيا على القرارات الأممية، وخاصة قرار جنيف 1 حزيران 2012، 2118، 2254، وإفراغها من مضامينها، عبر استخدام الضغط العسكري في استهداف المدنيين والبنى التحتية وفصائل الجيش الحر من جهة، وأيضاً عبر التحكّم والهيمنة على نشاط الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين الذين لم يكن يخفى تماهيهم مع التوجه الروسي، ولا حاجة للتأكيد على أن ديمستورا كان له الدور الأبرز في طرح فكرة

(السلال الأربعة) في لقاء جنيف الرابع (2 شباط 2017) مدفوعاً من روسيا، تمهيداً لتجزئة الحل السياسي الذي تضمنته القرارات الأممية، حيث أفضت فكرة السلال الأربع – بعد موافقة هيئة التفاوض – إلى انحسار أهمّ السلال (الانتقال السياسي) واختزال العملية السياسية في (سلة الدستور) التي وجد فيها نظام الأسد وحلفاؤه فرصة ثمينة لاستثمار الوقت، بل ملهاةً مناسبة لمشاغلة المجتمع الدولي من خلال إيهامه أن نظام دمشق يتفاعل مع القرارات الأممية.

لعله ليس مُستغرباً أن تتحوّل مباركات المجتمع الدولي للعدوان الروسي على السوريين إلى إدانات شديدة، وذلك بعد الرابع والعشرين من شباط الماضي، حين بدأ بوتين بغزو أوكرانيا، ذلك أن المعيار الناظم أو التخوم الفاصلة بين الإدانة والمباركة ليست هي قيم الحق والعدالة على الإطلاق، بل هي البواعث المصلحية بكل تأكيد، وربما هذا ما جعل إدانة الغرب عموماً للغزو الروسي لأوكرانيا تتحوّل إلى دعم غير محدود بالسلاح النوعي وكذلك دعم مطلق بالمال والمواقف السياسية معاً، أمّا إدانات الغرب للإجرام الروسي في سوريا فما تزال تُستخدم كآليات في إدارة الصراع وليس إجراءات عملية تعيد نوعاً من الاعتبار للدم السوري وتسهم في وضع حدّ للعدوان الذي ما يزال مستمراً، فهل مردّ ذلك إلى أن بوتين في أوكرانيا يواجه خصماً يدافع عن أرضه ويقاتل أصالة عن شعبه، بينما لا يجد في سوريا سوى جيوش لا تملك من أمرها شيئاً؟